آخر تحديث: 5 / 7 / 2025م - 11:41 م

كربلاء.. حين تمتزج الدموع بالقيم

زكية أحمد الناصر

منذ أن وعينا على هذه الحياة، وسارت خطواتنا على تراب هذه الأرض، ونحن نتنفس عبق كربلاء. ما زال غبار المعركة عالقًا في سمائنا، يمطرنا كل عام دموعًا، ويشقّ في قلوبنا أنهارًا من الحزن السرمدي.

1440 عامًا مرّت، وما زال الوهج مشتعلاً؛ خيطًا فاصلًا يُفرّق بين الحق والباطل. تلك هي كربلاء، بعنفوانها وخلودها.

حزنٌ عميق يمتدّ على خارطة الإنسانية، وليس كأيّ حزن؛ إنه الحزن المقدّس، المفعم بقيم الخير والجمال، رغم العذابات والوجع.

كبرنا على صوتٍ كان يُعرف آنذاك بـ المدّاح، ذاك الذي يجوب البلدة، يقرأ مدحًا أو نعيًا لأهل البيت ، يشجينا في كلّ الأوقات. كبرنا على ذاك الصوت، وتعلّمنا أن في الألم رسالة.

مذ كنا صغارًا، كنا نخرج في مختلف الأجواء ونفترش الأرض — إذ لم تكن هناك آنذاك أماكن مهيأة للنساء في حسينيات الرجال — نستمع بكل خشوع إلى سرديّة تاريخيّة تختلط فيها البطولات بمشاهد متفجّرة من المشاعر الإنسانية العميقة.

على هذا الخطّ تربّينا. تعلّمنا أن الأخوّة وفاء وعطاء، وإلّا فما معنى أن يصل العبّاس إلى الماء فلا يشرب؟! إنها المواساة وهي تزهر من فم القداسة؛ مات عطشانًا، وسقى الكون كله عطفًا، وغمر الوجود رحمة.

وتبلغ المواساة قمة وجعها حين يرفض العبّاس أن يُحمَل من مكان استشهاده، رأفةً بحال الحسين الذي بلغ به الوجع مبلغًا عظيمًا نتيجة هذا الفقد الجليل. ولتبقَ هذه البقعة شاهدة على ابتلاع أشجار الأنانية، واختصار الزمن بلغة الوفاء.

أمام هذه اللوحة المبهرة، هل يستطيع الإخوة أن يتعادَوا وتستمرّ القطيعة لسنوات؟!

كيف لبعضهم أن يقسو على إخوانه ويسلبهم حقوقهم؟ كيف للبعض أن يكون نمرودًا داخل أسرته، ومَلَكًا خارجها؟!

كيف تغيب الرحمة والعدالة فيما بيننا، ونحن نعيش كل عام ملحمةً من الحب، تعيد توجيه بوصلة علاقاتنا، وتُخرج سموم الأنانية والازدواجية من أرواحنا؟

كربلاء؛ عالم من الطهر في كل تفاصيله.

أصحاب الحسين الذين تنهدت السماءُ لمصرعهم، شكّلوا بانوراما إنسانية اجتمعت فيها القلوب رغم الفوارق في الطبقات الاجتماعية، والانتماءات القومية والمناطقية، بل وحتى الاختلافات في التوجهات العقائدية والسياسية. فقد كان بعضهم، قبل العاشر من المحرّم، لا ينتمي لتوجّه أهل البيت .

إنهم ثلّة جمعتهم عدالة القضية، وروح نستلهم منها التحلي بالمسؤولية، والعمل من أجل الإصلاح؛ كالانخراط في العمل الاجتماعي والخيري، كلٌّ بحسب قدراته وطاقاته ومواهبه.

كم هو جميل أن تعطي بلا مقابل، أن تستشعر حاجات الآخرين، أن تكون كتف السند لمن يحتاجك، وأن تهب من جهدك ومالك ووقتك لخدمة مجتمعك.

أليست هذه من قيم كربلاء؟

في داخل كلٍّ منا حدائق خير، وتأتي كربلاء لتُزهِر الورد منها، وتنثر عبيره عطاءً وحبًّا للأرض والإنسان.

إن كربلاء، بكل أبعادها، مدرسة للجميع؛ للرجل والمرأة.

فكما كان هناك الأنصار، كانت هناك المرأة تناضل بالصوت والكلمة، بحجابها وعفافها، تحمل الأمانة وتؤدّي الرسالة. إنها السيدة زينب ، وعلى خُطاها تمضي المسيرة. لنكن حاضرات بفكرنا وعملنا؛ فالأمومة أرقى وظيفة، والأسرة هي المحور الأول، لكن ليكن في جدولكِ نصيبٌ لمحيطك. كوني مضيئة، واتركي أثرًا.

إننا حين نجتمع في المجالس ونستذكر الصور الخالدة من الطف، فإننا لا نستحضر البطولات فحسب، بل نستلهم دروسًا في الأخلاق والإنسانية.

فعندما يسقي الإمام أعداءه الماء، ويدعو لهم: ”اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون“، فإنه يُقدّم لنا درسًا عظيمًا في العفو والتسامح.

كم من موقفٍ اليوم قد يضعنا قبالة أرحامنا، أو من هم أبعد من ذلك، فتتسرّب إلى نفوسنا مشاعر الحقد والقطيعة، رغم أن الأمور كثيرًا ما تكون قابلة للتجاوز والعفو.

فقط نحتاج إلى قلوبٍ طيّبة، ونوايا صافية، تعرف كيف تتسامى فوق الأذى، وتختار الصفح طريقًا.

إن الدموع الحارّة التي نذرفها على استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، ليست مجرد مشاعر عابرة، بل هي عملية فلترة لأرواحنا، وتنقية لما علق بها من شوائب على مدار العام.

إنها ولادة جديدة تهبها لنا كربلاء؛ بأخلاقها ومواقفها تصنع فينا شخصية قويّة، واثقة، قادرة على مواجهة التحديات والتصدي للمغريات بثبات ووعي.