سقوط القصر الوهمي
حين يُصوّر الصمت ذنبًا،
ويُلبَس الرفضُ ثوب الجحود،
لا تكتب لتشرح... بل لتُنقذ ما لم يُقَل.
تأتيني كصدىً مُتَهمٍ: ”ظلَمتِني“.
وأنا، في هدوء الحقيقة، أُجيب: بل أنتَ من ظلمَ نفسَك.
ظلمتَها يومَ رفعتَ بنيانكَ في الفراغ،
قبل أن تمنحكَ الأرضُ شرفَ الثبات.
بنيتَ من سرابِ خيالكَ قصرًا،
وأسكنتَني أروقته دون أن تملك له مفتاحًا،
دون أن تطرق بابه،
ودونَ أن تسأل إن كانت روحي تألفُ الجدران.
أشعلتَ من هشيمِ الوهمِ نارًا عظيمة،
ثم ملأتَ الفضاء صراخًا: ”احترق! أنقذيني!“
وكيف أُنقذُ غريقًا يعشقُ الغرق في بحرٍ من صنعه؟
تهمسُ بأنكَ بريءٌ، صامتٌ، لم تَقُل شيئًا.
لكنّ اسمكَ يطرقُ أبوابي مع كل نسمة،
ووشوشاتُ العابرين تحملُ تفاصيلَ حوارٍ لم يَدُر إلا في رأسك.
فمن أفشى السرَّ إن كان فمُكَ مُطبقًا؟
هل للعيونِ لسانٌ لتُفشي أسرارًا لم تُؤتمن عليها؟
أم أن الحبَّ في شريعتكَ إشهارٌ وإعلان،
وليمةٌ يُدعى إليها القاصي والداني؟
أنتَ تريدُ حبًا يملأ الآفاقَ ضجيجًا،
وأنا لا أؤمنُ إلا بقدسيّةِ ما خَفي،
بطُهرِ ما استتر.
الحبُّ، يا هذا، ليس سوقًا تُنادى فيه الأسماء،
ولا منبرًا تُرسلُ من فوقهِ الرُسُلَ لتصرخَ بالنيابةِ عنك: ”أُحبها“.
الحبُّ نخوةٌ تسبقُ الكلمة.
صمتٌ كريم.
هو ذاكَ الخوفُ النبيلُ على اسمِ الحبيبِ أن تخدشهُ شائبةُ القيلِ والقال.
فأينَ نخوتُكَ وأنتَ تدفعُ بي إلى زحامِ الألسنِ باسمِ العشق؟
وهل من يُحبُّ يَفضح؟
وهل من يحرصُ على شيءٍ يُعرّضهُ للريح؟
والآن، تَعدُني بقصيدةِ اعتذار.
وهل القصائدُ تُطهّرُ النوايا؟
أم أنَّ الشعرَ قد صارَ درعًا يختبئُ خلفهُ من لا يملكُ شجاعةَ المواجهة؟
روحي ليست متحفًا تُعلّقُ على جدرانهِ ندمَكَ المؤقت،
وليست ساحةَ حربٍ تُعلنُ فيها هدنةً لتُعيدَ ترتيبَ صفوفكَ ثم تستأنفَ الغزو.
الاعتذارُ لا يُكتب، بل يُعاش.
لا يُعلَّقُ ليراهُ الناس، بل يُصانُ ليراهُ القلب.
تأتي مُتعللًا: ”لستُ غنيًا، ولا صاحبَ جاه...“
فأسألُكَ بدهشة: إذن لماذا تبحثُ عن روحٍ أخرى؟
أتريدُ قلبًا تُشعلُ فيهِ قنديلَ الأملِ ثم تسرقُ زيتهُ لتُضيءَ به عتمةَ دربك؟
أم تبحثُ عن يدٍ تنتشلكَ حين تهوي،
وكتفٍ تتكئُ عليهِ لأنكَ لا تقوى على حملِ نفسِك؟
ثم ترمي بها في وجهي،
الكلمةُ الأخيرة،
السلاحُ الأعظم: ”أُحبُّكِ!“
وكأنها بطاقةُ عبورٍ تفتحُ كلَّ الأبوابِ المُوصدة!
وكأنَّ وقعَها سيجعلني أخرُّ راكعةً أمامَ قراركَ المنفرد.
تنتظرُ مني ”نعم“ لأنَّ وجهي قد راقَ لك،
وتنسى أنَّ خلفَ هذا الوجهِ تقفُ روحٌ حُرّة،
لا تُشترى بنظرةٍ، ولا تُستدرَجُ بكلمة.
هل يُعقلُ أن يُطلبَ منِّي أن أدوسَ على ذاتي،
أن أدفنَ صوتي،
أن أقولَ ”نعم“ لحبٍّ لم أطلبه،
لم أسعَ إليه،
لم تُهيّئ روحي له مكانًا؟
هل يُطلبُ من القلبِ أن يخونَ نفسهُ إكرامًا لقرارِ قلبٍ آخر؟
الحبُّ ليس استجداءً،
ولا هو ردُّ جميلٍ لشعورٍ لم يُطلب.
أنا لا أبيعُ قراري لمن قرأ عنواني من الغلاف،
وأغفلَ عن فصولِ العزةِ والنورِ و”اللاءاتِ“ المقدّسةِ في داخلي.
جئتَ تطلب، فكانَ الجوابُ: ”لا“.
جئتَ تتكلم، فكانَ الصمتُ هو الجواب: ”لا“.
وتظنُّ أنَّ الرفضَ عناد،
أو أنَّ ”لا“ هي ”نعمٌ“ مؤجلة.
فلتكن هذه هي المرة الأخيرة:
الحبُّ ليس غصبًا ولا إكراهًا.
هو تلاقٍ، لا مُلاحقة.
هو توافقٌ، لا فرضُ رؤية.
أنتَ تقول: ”أعرفُ ما يليقُ بكِ“،
وأنا أقول: ”وأنا أعرفُ ما يليقُ بي“.
وما دامَ طريقي لا يُشبهُ طريقَك،
فلا تُجبِر الأرضَ على أن تنحنيَ لتُوافقَ مقاسَ خطواتِك.
تقول: ”أحبك“.
وأنا أقول:
الحبُّ شرفٌ يُكتسب، لا حقٌ يُنتَزع.
وإن سقطَ عنهُ شرفُ الكلمةِ ومعناها،
ما عادَ حبًا،
وما عادَ يُقال.
ذاك هو قصرُك، سقط،
لا لأنني هدمته،
بل لأنني لم أكن فيه.