حين تتكلم زينب (ع) في زمن الضجيج
قراءة في مقال د. تركي العجيان: العقيلة زينب صرخةٌ في عصر الانفتاح - جهات الإخبارية
ما قرأتُه للتو من مقال الدكتور تركي العجيان عن العقيلة زينب يترك في نفسي صدىً عميقًا، كأنه لحنٌ فلسفيٌ يتغلغل في الروح، وصورٌ سينمائيةٌ تتراقص أمام العين. لقد ارتسمت أمامي مشاهد حية لتلك السيدة العظيمة، لا كشخصية تاريخية فحسب، بل كمنارةٍ تضيء دروبنا في عصرٍ صاخب، عصرٌ يشبه ما وصفه زيغمونت باومان بـ ”الحداثة السائلة“، حيث تتبخر الخصوصية، وتصبح العلاقات والأفكار والمواقف بلا جذور. زينب في هذا السياق ليست فقط امرأة من زمن مضى، بل هي نقطة ارتكاز روحي وفكري في مواجهة التفكك الأخلاقي والانكشاف التام.
كتب عبد الوهاب المسيري في موسوعته: ”كل ما هو خاص في الإنسان معرض لأن يُبتذل إذا لم يُصن بوعي روحي وأخلاقي.“ وكأن الدكتور العجيان يستدعي هذه الرؤية وهو يؤكد أن ”الحياة الخاصة.. خط أحمر“، ليس لأن زينب كانت تختبئ، بل لأنها كانت تحفظ سرّ حضورها لحظة بلحظة. حضورها لم يكن مفرطًا ولا ناقصًا، بل محسوبًا كأنه توقيع إلهي على مشهدٍ لن يتكرر.
ثم ينتقل الدكتور العجيان في مقاله إلى تحليل الآية: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ، لا ليفسرها تقليديًا، بل ليكشف عن جوهر عميق: أن الزينة التي تظهر، ينبغي ألّا تكون مقصودة. هذا التفسير أعادني لما كتبته بنت الشاطئ في دراستها عن نساء أهل البيت، حين وصفت العفّة الزينبية ب: ”تجلٍّ خافت للكرامة لا يطلب تصفيقًا، بل يكتفي أن يبقى محفوظًا في السماء.“
ويكتب طه عبد الرحمن في ”روح الحداثة“: ”الحياء ليس انسحابًا، بل نمط راقٍ من الحضور.“ وهكذا كانت زينب، حاضرة حين يفرض الموقف، وغائبة حين يكون الغياب لغة أبلغ.
في الفصل الأخير من المقال، ترتفع نبرة الدكتور العجيان الفكرية إلى مستوى النداء، فيُظهر العقيلة زينب كقائدة في قلب المأساة، لا كاستثناءٍ عابر، بل كنموذج خالدٍ للمرأة التي يُوقظها الواجب فتنهض، دون أن تتخلّى عن حيائها أو تتنازل عن قيمها. هذا المشهد الزينبي الحيّ يُعيد تعريف المفهوم المغلوط للقيادة النسائية، التي كثيرًا ما تُربط بالظهور الصاخب أو التمرد الظاهري.
وفي هذا السياق، يستحضرني قول سيمون فايل، الفيلسوفة الفرنسية التي كتبت: ”إن القوة الحقيقية هي حين نختار أن نُظهرها في الوقت المناسب، لا حين نعيش بها طوال الوقت.“ وكأن زينب كانت تمارس هذا النمط من القيادة: قيادة بالصمت، ثم بالصوت حين يشتد الظلام.
وكما كتب مالك بن نبي عن ”فاعلية المرأة الحضارية“ في المجتمع المسلم: ”المرأة ليست على هامش النهضة، بل هي طاقتها الصامتة.“ العقيلة زينب، بحسب مقال الدكتور العجيان، لم تكن فقط تواسي وتُربّت على الأيتام، بل كانت تكتب خطابًا علنيًا بعيونها وصوتها وحضورها، تُكمل به صوت الحسين ، لا تكرره، بل تعيد توجيهه إلى عمق التاريخ.
وإذا كان البعض يرى أن دور المرأة هو في الظل فقط، فإن زينب تقول لنا: ”الوقار لا يعني الغياب، والصوت لا يعني التفريط.“
وهنا يلتقي المقال مع ما كتبه محمد شحرور في ”الكتاب والقرآن“، حيث أشار إلى أن تكليف المرأة ليس تابعًا لتكليف الرجل، بل هو تكليف ذاتي مستقل بالوعي والقدرة، تمامًا كما ظهر في موقف زينب يوم خرجت لتُعلن رسالة كربلاء دون أن تُخلّ بحجابها أو حيائها.
لذلك، حين يقول الدكتور العجيان في مقاله: ”إن الجمع بين الرسالة والعفّة، ممكنٌ بل واجب.“، فهو لا يضع معادلة مثالية، بل يستلهم واقعًا حصل، وموقفًا ثبت، وروحًا لا تزال تنبض في نساء كُثر لم يُكتشفن بعد.
هذا المقال لم يُرِنا العقيلة زينب فقط، بل أخرجنا من سطوة الاستهلاك المعرفي إلى التأمل الحقيقي في دورنا - نحن نساء هذا العصر - أمام انفتاح يعصف بكل ما هو عميق وهادئ وخاص.
لقد تحول النص إلى مرآة عاكسة، وزينب فيها ليست صورة على جدار التاريخ، بل امرأة تمشي أمامنا وتسألنا:
"هل وعيتِ رسالتكِ؟
هل تحافظين على سركِ وسترِكِ؟
وهل حضوركِ في الحياة… يشبه حضوري؟"