قشرة النواة… حين يُختبر العمق من أول نظرة
”كأنهم يتكلمون عني“ —
هكذا اختتم علي الجماعي مقاله الملهم:
”التسويق بالمشاعر | Emotional Marketing“، والذي يمكن قراءته عبر الرابط التالي. [1]
ليست مجرد جملة، بل مفتاحٌ يفتح أبوابًا كثيرة في وعينا...
ذلك الإحساس بأن هناك من يرى دواخلنا، يترجمها، ويعيد تقديمها إلينا — لا على هيئة فكرة، بل على هيئة منتج أو تجربة — هو ذروة البراعة في بناء البراندات.
الجماعي لم يشرح المفهوم بمصطلحات أكاديمية، بل غاص في صميم الشعور الإنساني.
”لا يشتري الناس المنتجات بل يشترون ما تعنيه لهم.“
جملة بسيطة، لكنها تختصر فلسفة كاملة.
إنها ليست نظرية تسويق، بل نافذة على فهم عميق لطبيعة الإنسان.
ومن هنا، يصبح البراند الناجح ليس منتجًا جيدًا فحسب، بل مرآة.
مرآة نرى فيها شيئًا من ذواتنا، أو مما نطمح أن نكونه، أو مما نبحث عنه دون أن نعرفه.
حين نحب ماركة معينة، فإننا في الحقيقة نحب القصة التي ترويها لنا.
نحب الشعور الذي توقظه فينا، وكيف يتناغم مع صورة نحب أن نحملها عن أنفسنا.
الشركات الذكية لا تبيع منتجًا، بل تبيع حالة شعورية نعرفها مسبقًا، أو نشتاق أن نشعر بها.
فكّر في بلايستيشن.
ليست مجرد منصة ألعاب، بل بوابة للهرب، مساحة للتحدي، ذاكرة مشتركة بين الإخوة أو الأصدقاء.
صوت التشغيل وحده كفيل بأن يعيدك إلى لحظة ما — إلى غرفة مزدحمة بالضحك، أو مساء هادئ منغمس في مغامرة.
إنه جهاز، نعم، لكنه يوقظ شعورًا... والشعور هو ما نشتريه في النهاية.
هذه ليست مصادفات، بل بصمات عاطفية.
اختيارات نعتقد أنها عفوية، لكنها في العمق استجابة لمشاعر مدروسة، تم تحفيزها بعناية.
وقفتُ أمام المرآة.
لم أكن أختار عباءتي فقط، بل كنت أختار الطريقة التي أظهر بها لنفسي أولًا، قبل أن أظهر بها للناس.
اخترت عباءة بخطوط ناعمة وقماش ينساب برقة.
تحتها، ارتديت لونًا رماديًا مائلًا إلى الأزرق — لون لا يصرخ، لكنه يقول: أنا متزنة، وأعرف إلى أين أذهب.
تفصيلان فقط، لكنهما كانا كافيين ليحملاني في صمت إلى الشعور الذي أريد أن أكون عليه.
كما تفعل الشركات تمامًا حين تختار لونًا وشعارًا لتقول ما لا يمكن شرحه.
لم أكن أرتدي ملابس… كنت أرتدي نية.
نية أن أكون بشكل معين، أن أُقرأ بطريقة معينة.
ولم أكن أعلم وقتها، أن هذه النية المتكررة، هذه الاختيارات الدقيقة، هي ما يشكّل ملامح البراند النفسي — ذاك الذي لا يُرى، لكنه يُشعَر.
قد يقول الكثير: ما علاقة هذا كله؟ عباءة، لون، قماش… ما علاقتها بعالم الماركات أو الاستراتيجيات النفسية؟
لكن دعنا نسأل أنفسنا بصدق:
ألم تجد نفسك تنجذب إلى أشخاص وتنفر من آخرين من أول نظرة؟
نظرة لا تحمل معلومة، بل تحمل شعورًا.
لماذا يقولون إن الغلاف مهم؟
لأنه، في كثير من الأحيان، يوحي بما في الداخل.
قد لا يقول الحقيقة الكاملة، لكنه يرسم انطباعًا أوليًا يعلق في الذاكرة، وينمو مع كل تكرار.
وهكذا نحن أيضًا.
نتكوّن في عين الآخر من إشارات — نبرة، مشية، لون، نظرة، وقفة.
لا أحد يرانا بالكامل، لكن الجميع يتفاعل مع الصورة الأولى.
تلك التي نرسمها، بوعي أو بلا وعي، في كل مرة نقف فيها أمام المرآة أو أمام العالم.
فهل نحن فقط أشخاص؟
أم نحن روايات متحركة، نُقرأ قبل أن نتكلم، ويُحكم علينا من غلاف أرواحنا قبل مضمونها؟
ليس غريبًا أن يتوقف سقراط عند عبارته الشهيرة:
”اعرف نفسك“.
فمن لا يعرف ذاته، لن يعرف ماذا يقول عنها، ولا كيف يُقرأ في أعين الآخرين.
أما جان بول سارتر، فكان يؤمن أن ”الآخر هو مرآتي“.
وأننا لا نكتمل إلا حين نُرى — حين تُترجم ملامحنا إلى تجربة تُقرأ من الخارج، وتُصقل من الداخل.
وهكذا، لا تعود الهوية سؤالًا داخليًا فحسب، بل تصبح فعلًا خارجيًا نمارسه يوميًا:
كيف نقف، ماذا نختار، كيف نُظهر نوايانا دون أن نتكلم عنها.
فلعل البراند... لم يكن سوى قشرة تختبر صدق النواة، وصوتًا خارجيًا يترجم ملامح هوية لم تكتمل إلا حين رآها الآخر.
فكما تُبنى المؤسسة من ميثاق غير منطوق، من روح تُترجم إلى تجربة — كذلك نحن، علامات حية تبحث عن اكتمالها في أعين من يروننا، لا في ألسنة من يصفوننا.