آخر تحديث: 16 / 6 / 2025م - 8:08 م

برمجة القلق: هل نخشى مما نُبدعه؟

كنت أقود سيارتي بينما أستمع إلى أحد المحاضرين وهو يُحذّر بشدّة من ”الخطر القادم“ نتيجة شيوع استخدام الذكاء الاصطناعي على مختلف الأصعدة. أثار هذا الحديث في داخلي تأملاً، فبالفعل هناك أجواء عامة مشبعة بالقلق من هذه التقنية الصاعدة. تساءلت حينها: هل نحن حقاً نخشى الذكاء الاصطناعي؟

والجواب بكلّ صراحة هو: نعم، هناك قلق حقيقي من أن يستحوذ الذكاء الاصطناعي على مفاصل حياتنا اليومية، وأنا لا أنكر مشروعية هذا القلق، وفي الوقت نفسه لا أنحاز إليه.

وإذا ما تأمّلنا هذا القلق سنجد أنه يعود إلى أحد سببين رئيسيين:

الأول: الاستخدام السلبي للذكاء الاصطناعي.

وهذا أمرٌ طبيعي؛ فكل ما في الوجود قابل للاستخدام الإيجابي أو السلبي، حتى جوارح الإنسان ذاتها. ولو كنا نرفض كل ما يمكن استخدامه بسلبية، لما تبقّى لدينا شيء نستخدمه أصلًا.

الثاني: عدم فهم طبيعة عمل الذكاء الاصطناعي.

وهو أمر واضح في الأوساط العامة غير التخصصية، حيث يسود انبهار غير واعٍ، وتُنسج أوصاف مبالغ فيها حول هذه التقنية، لدرجة أن أحدهم يتساءل: هل الذكاء الاصطناعي معصوم؟!

هذا الانبهار المفرط من جهة، والاعتماد الأعمى على نتائج الذكاء الاصطناعي من جهةٍ أخرى، بالإضافة إلى التخوّف من المفاهيم غير المنضبطة التي قد تتسرّب عبره، كل ذلك يكشف عن خللٍ واضح في فهم آلية عمل هذه الأداة الذكية.

وبحكم تخصصي الأكاديمي كمهندس حاسب آلي، واهتمامي الاجتماعي بالتنمية البشرية والارتقاء بالوعي الإنساني، سأتناول الموضوع من زوايا متعددة.

الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة

الذكاء الاصطناعي هو أداة رقمية صمّمها الإنسان، تتيح للأنظمة الحاسوبية محاكاة السلوك البشري الذكي، كالتعلّم، والاستنتاج، وحل المشكلات، عبر الخوارزميات ومعالجة البيانات. ويستقي بياناته ومعلوماته من مساحات تخزين ضخمة، ويقوم بمعالجتها بسرعة هائلة وفقاً لمتطلبات المستخدم البشري.

من هنا، فإن أول ما يلفت الانتباه في الذكاء الاصطناعي هو سرعته الهائلة في معالجة البيانات والمعلومات. وهذا تطوّرٌ عظيم يستحق الاستثمار، تمامًا كما هو الحال مع سائر القفزات النوعية في تاريخ البشرية. فلو أردت اليوم أن تقطع المسافة بين مدينتي القطيف والمدينة المنوّرة مشيًا على الأقدام، فقد تستغرق الرحلة أكثر من خمسة عشر يومًا، في حين تقطعها بالسيارة خلال أربع عشرة ساعة، وبالطائرة في غضون ساعتين فقط. وقد يأتي يومٌ تتحقّق فيه السرعة الفائقة كما في قصّة نبي الله سليمان مع ملكة سبأ، حين قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .

ومثل هذا التسارع نجده أيضًا في ميدان المعرفة؛ فالبحث العلمي الذي قد يستغرق من الباحث أيامًا، يمكن إنجازه اليوم في ساعات معدودة بمساندة الذكاء الاصطناعي، دون أن يفقد عمقه أو دقّته إن أحسن استخدامه.

فالتقدّم البشري في جوهره بحثٌ عن الكفاءة، وإنجاز المهام بزمنٍ أقصر وجهدٍ أقل. ولهذا لم يكن غريبًا أن يُطلَق على زمننا هذا ”عصر السرعة“، حيث يلعب التقدّم التكنولوجي، وفي طليعته الذكاء الاصطناعي، دورًا محوريًا في تشكيل إيقاعه المتسارع.

ليس إعجازاً بل خوارزميات

عندما ننظر إلى نتائج الذكاء الاصطناعي، قد يخيّل للبعض أنها تأتي من مصدر غيبي أو ذهنٍ خارقٍ يتجاوز الفهم، لكن الحقيقة مختلفة تمامًا. فالذكاء الاصطناعي لا ”يفكر“ كما يتخيله الناس، ولا يملك وعيًا أو إدراكًا، بل هو ببساطة أداة تعتمد على خوارزميات رياضية معقّدة، تقوم بتحليل كمٍّ هائل من البيانات للوصول إلى نتائج تُشبه ما يمكن للدماغ البشري أن ينتجه.

العملية تبدأ بإدخال بيانات ضخمة إلى نموذج برمجي، يتم تدريبه على أنماط متكرّرة ضمن تلك البيانات. من خلال هذا التدريب، يتعلّم النموذج الربط بين المعطيات والاستنتاجات الممكنة، تمامًا كما يتعلّم الطفل من كثرة التكرار، لكن دون أي فهم حقيقي للمعنى.

والذكاء الاصطناعي إنما يقوم بمعالجة البيانات والمعلومات بناءً على ما يطلبه المستخدم منه، فهو أداة مطيعة جدًا تُنفّذ المطلوب بلا وعي ولا اعتراض. لا تُبادر، ولا تقرّر، ولا تبتكر من ذاتها، بل تستجيب لما يُغذّيها به المستخدم من أوامر وبيانات.

كل ما يقوم به الذكاء الاصطناعي هو حساب احتمالات، ثم تقديم الناتج الأكثر توافقًا مع ما تمّ تدريبه عليه. وبالتالي، حين يقدّم لك الذكاء الاصطناعي إجابةً أو توصيةً أو حتى رسمًا فنيًا، فهو لا ”يُبدع“ بقدر ما ”يُركّب“ النتيجة بناءً على ما تعلّمه من بيانات سابقة.

وما يُثير القلق أحيانًا ليس قدرته، بل جهل البعض بطبيعة عمله. فالخطر لا يكمن في الأداة، بل في طريقة استخدامها، وفي مدى وعي المستخدم بحدودها وإمكاناتها.

الذكاء الاصطناعي لا يعقل

من أكثر المفاهيم المغلوطة التي تتسرّب إلى أذهان الناس هي الظنّ بأن الذكاء الاصطناعي ”يعقل“ ما يفعله، أو أنه يمتلك وعيًا بالمعاني التي يُنتجها. والواقع أن الذكاء الاصطناعي، مهما بدا ذكيًا، لا يملك عقلًا ولا شعورًا، ولا يستطيع إدراك الخير أو الشر، الصواب أو الخطأ، ما لم نُعرّفه بها برمجيًا.

العقل الإنساني يمتلك التوجيه الذاتي، ويربط بين المعاني، ويُميّز بين الصواب والخطأ، والحق والباطل، ويتخذ القرار بناءً على منظومة متداخلة من القيم والمعرفة والوجدان. أما الذكاء الاصطناعي، فهو يفتقر إلى هذا الوعي، ويعتمد فقط على ما تعلّمه من بيانات صمّاء، دون أي فهمٍ حقيقي أو إحساس بالنتائج.

فهو كالطفل تماماً في تعلّمه وتدريبه على الأمور الحياتية، وهنا يستحضرني ما قاله أمير المؤمنين في نهج البلاغة ضمن هذا السياق: «وأما قلبُ الحدَثِ، فإنَّما مثلُه كمثلِ الأرضِ الخاليةِ، ما أُلقي فيها من شيءٍ قبلته».

ولذلك، حين يُقال إن الذكاء الاصطناعي ”قرّر“ شيئًا، فالصحيح أنه ”نفّذ“ ما تم برمجته أو تدريبه عليه. هو لا يعقل، بل يُحاكي فقط.

تمامًا كمن يُردّد كلماتٍ بلغة لا يعرف معناها، فيظن الناس أنه فصيح، بينما هو يردد ما سمعه.

ولعلّ هذا الفارق الجوهري هو ما يجعل الإنسان مسؤولًا أخلاقيًا عن نتائج استخدام الذكاء الاصطناعي، لأنه هو صاحب القرار، والموجّه، والمُحمّل بقيم الخير أو الشر، لا الأداة نفسها.

وختاماً: ليس الذكاء الاصطناعي هو ما يُقلقنا في جوهره، بل ما يعكسه لنا من بعض جوانب ضعفنا: أخطاؤنا، تحيّزاتنا، وقراراتنا التي لم نحسن التفكير فيها. فنحن نخشى أن نمنحه قوةً لم نُحسن تأطيرها، أو نُحمّله قراراتٍ كان الأولى أن تبقى في حوزة وعينا.

إن الخطر الحقيقي لا يكمن في الآلة، بل في الإنسان حين يُفوّت على نفسه فُرصة الفهم، والمساءلة، والتوجيه.

نحن من نصنع الذكاء الاصطناعي، ونحن من نُلقّنه، ونوجّهه، ونستثمره، أو نفرّط فيه.

فإن كان ثمّة ما يستحق أن نخشاه، فهو استسلامنا له بلا وعي، أو نُفرغ إنسانيتنا منه،

فنُصبح أداة لأداتنا.

لذا، ليس المطلوب أن نُحارب الذكاء الاصطناعي، بل أن نُدركه، ونُدير علاقتنا به بذكاءٍ إنسانيٍّ أعلى.