الجنود المجهولون: بين القاعدة المدفونة والبروز السطحي
في حياتنا المختلفة بشتى مجالاتها، هناك دائمًا بروزٌ لأشياء معينة، واختفاءٌ لمكملٍ أو متممٍ لها. البعض يعتبر هذه الظاهرة ”سنة من سنن الحياة“، فلا نستطيع تبديلها أو تحويلها إلى واقعٍ آخر. بل إن محاولة تغيير هذه المعادلة قد تعني، بشكلٍ غير مباشر، تعطيل دورة الحياة نفسها.
على سبيل المثال: بناء منزل لا يمكن أن يتم بلا قاعدة متينة تتحمل بناءً متعدد الطوابق. ومع ذلك، عندما يكتمل البناء، لا يلتفت أحد إلى القاعدة المدفونة تحت الأرض، بل تمتد الأنظار إلى جمال ألوان المنزل، وشكله الهندسي، وأبوابه ونوافذه. فلا أحد يمدح القاعدة، رغم أنها الأساس الذي يحمل كل ذلك الجمال. هكذا تسير الحياة: الأساس مدفون، والواجهة هي البارزة.
وينطبق هذا أيضًا على بيئات العمل الوظيفي: هناك موظفون يكدحون ويبذلون جهدًا كبيرًا، سواء في الأعمال التنفيذية أو الإدارية، لكن النتيجة الأخيرة غالبًا ما تنسب إلى توقيع المدير وتُحسب له كإنجازٍ كامل.
وفي عالم الفنون والرياضة، تتكرر نفس الظاهرة. ففي كرة القدم، يبرز اسم الهداف، ويحتفل به الجمهور، بينما يُنسى اللاعب الذي صنع الهدف ببراعة. وكذلك في السينما، رغم أن المخرج هو دينمو العمل الفني، وهو من يضفي على الفيلم روح الإبداع وينظم أداء الممثلين، إلا أن البروز في النهاية يكون من نصيب الممثل وحده.
وغالبًا، حين يُراد تكريم من يعملون خلف الكواليس، يُلقبون بـ ”الجنود المجهولين“، وكأن في المجهولية تكريمًا لهم، مع أن الأولى أن يكونوا جنودًا معلومين، معترفًا بجهودهم علنًا.
إن تقدير من يعملون بصمت لا يعطل سنن الحياة، بل يعززها. فالاعتراف بالجهود الخفية يضاعف العطاء، ويحفز أصحاب الكفاءات على مزيدٍ من الإبداع والإنجاز. حين نكرم الموظف على عمله، والمخرج على رؤيته، وصانع اللعب على تمريرته، فإننا نعيد للجهد قيمته، ونبني مجتمعًا أكثر عدلًا وتوازنًا.