مسافة بين الشك واليقين على متن قطار في بريطانيا
كنت في مدينة بريستون، حيث أرافق ابنتي التي تدرس في إحدى جامعاتها. بريستون، هذه المدينة الهادئة في شمال غرب إنجلترا، تحمل طابعًا يجمع بين الحداثة والتاريخ، بشوارعها المنظمة ومبانيها العريقة. بعد أيام من الإقامة هناك، قررت التوجه إلى ليدز لزيارة أخي الأكبر، الذي كان بدوره يرافق ابنته في رحلتها الدراسية. ليدز، المدينة النابضة بالحياة، تشتهر بجامعاتها المرموقة وأسواقها المزدحمة، وهي وجهة تجمع بين التنوع الثقافي والتطور الحضري.
في صباح يوم ممطر، توجهت إلى محطة القطار في بريستون، متجنبًا برك الماء المتجمّدة، وصعدت إلى القطار المتجه إلى ليدز، وهي رحلة تستغرق قرابة الساعتين. في الداخل، كان الجو دافئًا مقارنةً بالبرد القارس في الخارج. جلست بجوار النافذة، أراقب قطرات المطر المتساقطة على الزجاج، تتسابق في خطوط متعرجة، وكأنها تعكس أفكارًا حائرة تبحث عن مسارها.
أخرجت هاتفي وبدأت أتصفح تطبيق القرآن الكريم، أقرأ بعض الآيات بصوت خافت، متأملًا في معانيها. بعد لحظات، لاحظت أن الشاب الجالس بجواري ينظر إليّ بين الحين والآخر، وكأنه يريد أن يقول شيئًا لكنه متردد. بعد صمت قصير، التفت نحوي وسألني بلهجة ودودة:
“هل تقرأ القرآن يوميًا؟”
فوجئت بسؤاله، إذ لم يكن معتادًا أن يبدأ الغرباء حديثهم بهذه الطريقة، خصوصًا في بريطانيا، حيث تكون الأحاديث عادةً عن الطقس المتغير باستمرار. ومع ذلك، قررت أن أجيب بشفافية، لعلّه يسأل عن شيء يثير اهتمامه.
رفعت بصري إليه وابتسمت:“أحاول ذلك قدر المستطاع، فهو يمنحني راحة لا أجدها في أي شيء آخر.”
تنهد وقال وكأنه يحدث نفسه:“أتمنى لو كنت أشعر بذلك…”
كان صوته يحمل شيئًا من الحيرة أكثر من كونه تحديًا. بدا وكأن داخله تساؤلات لم تجد إجابة. التفتُّ إليه وسألته:“ما الذي يشغل بالك؟”
نظر نحو النافذة للحظة، ثم عاد بنظره إليّ وقال:“نشأت في أسرة مسلمة، لكنني عشت هنا في بريطانيا منذ طفولتي. في المدرسة والجامعة، كنت محاطًا بأصدقاء لا يؤمنون بالله. في البداية، كنت أجادلهم، لكن مع الوقت بدأت أتأثر. لماذا نؤمن بشيء لا نراه؟ ألا تكفي قوانين الطبيعة لتفسير كل شيء؟”
كان سؤاله صادقًا، لا يحمل جدلًا بقدر ما يعكس صراعًا داخليًا. شعرت أنني أمام شاب لم يُعرض عليه الإيمان بطريقة عقلانية، بل عاش في بيئة مليئة بأسئلة مفتوحة دون إجابات واضحة. لاحظت أنه يحمل بيده ملفًا عليه شعار إحدى شركات الهندسة، فتذكرت أنه ذكر خلال حديثه أنه مهندس حديث التخرج. سألته بابتسامة:
“أنت مهندس، أليس كذلك؟”
أجاب:“نعم، تخرجتُ من كلية الهندسة بجامعة بريستون، وذاهب إلى ليدز لإجراء مقابلة عمل في شركة بناء.”
قلت:“جميل، إذن دعني أسألك… لو مررت أمام مبنى ضخم مصمم بدقة عالية، هل ستعتقد أنه نشأ بالصدفة، أم أن هناك مهندسين ومخططين خلفه؟”
ضحك وقال:“بالطبع هناك مهندسون، هذا بديهي.”
تابعت:“إذن، كيف يمكن للكون، الذي هو أكثر تعقيدًا من أي بناء، أن ينشأ من تلقاء نفسه؟ كل شيء في الوجود يسير وفق قوانين دقيقة، من حركة الكواكب إلى تكوين خلايا جسدك. فهل يمكن أن يكون كل هذا نتيجة مصادفة عشوائية؟”
بدأت ملامح التردد تظهر على وجهه، ثم قال:“لكن الحياة تطورت، ربما لم نكن بحاجة لخالق.”
قلت:“التطور يشرح كيف تتغير الكائنات، لكنه لا يفسر كيف بدأت الحياة أصلًا. في كل خلية من جسدك، هناك شيفرة جينية «DNA» تحمل معلومات أدق من أي برنامج حاسوبي، مليئة بتعليمات دقيقة لتكوينك. فهل رأيت يومًا برنامجًا متطورًا يُكتب من تلقاء نفسه؟”
نظر إليّ وقال:“هذه نقطة مثيرة… لم أكن أفكر في الDNA بهذه الطريقة.”
ثم عاد للتساؤل:“لكن لماذا نحتاج إلى الدين؟ ألا يكفي أن نكون صالحين دون الحاجة إلى معتقدات دينية؟”
سألته:“هل تعتقد أن القتل ظلم؟”
أجاب فورًا:“نعم، بالتأكيد.”
تابعت بسؤال آخر:“وهل تعتقد أن سرقة أفكارك من زميل في العمل فعل غير مقبول؟”
قال بانفعال:“بالطبع، هذا غير أخلاقي!”
قلت:“لكن لماذا؟ لو كنا مجرد تفاعلات كيميائية، فلماذا نشعر أن هناك صوابًا وخطأ؟ لماذا نمتلك هذا الضمير الداخلي الذي يجعلنا نفرّق بين العدل والظلم؟”
فكر قليلًا، ثم قال:“ربما لأننا تعلمنا ذلك من المجتمع.”
قلت:“لكن هناك قيم نشعر بها داخليًا حتى لو لم يخبرنا بها أحد… مثل العدل، والرحمة، والتضحية. لماذا يمتلك البشر، بغض النظر عن ثقافاتهم، حسًا أخلاقيًا مشتركًا؟ وجود ضمير عالمي يوحي بأن هناك مصدرًا أعلى لهذه القيم.”
هز رأسه وقال:“لم أنظر إلى الأخلاق من هذه الزاوية من قبل.”
ثم سألته:“هل لاحظت يومًا أنك عندما تقترب الصلاة، تشعر بالنعاس أو الكسل، ولكن بعد فوات وقتها يعود إليك النشاط وكأن شيئًا لم يكن؟”
أجاب على الفور:“نعم! كأنك تصف ما كنت أشعر به، خاصة أثناء صلاة الفجر.”
قلت:“هذه إحدى الأدلة على وجود الله. فالشيطان يحاول بكل قوة أن يثني الإنسان عن الصلاة، ثم يوسوس له بأنه سيعوضها لاحقًا، وهكذا حتى يبتعد شيئًا فشيئًا عن أهم ركن في الدين، وهو الصلاة، التي تمثل صلة العبد بربه.”
بينما كنا مستغرقين في الحديث، بدأ القطار في التباطؤ، وأعلن المذيع الداخلي اقترابنا من محطة ليدز. نظر الشاب إلى ساعته وقال:“لم أشعر بالوقت يمر… هذا حديث أحتاج إلى التفكير فيه.”كنت مترددًا في طلب رقمه، فلم أشأ أن أفرض نفسي عليه. في النهاية، كان هذا حديثًا عابرًا في قطار الحياة، ومن يدري، ربما ألتقي به صدفة مرة أخرى.
وقبل أن يهم بالنزول، التفت إليّ وقال:“قد لا أكون اقتنعت تمامًا، لكنني سأعيد التفكير في كل هذا… ربما كنت أغلق عقلي أمام بعض الحقائق.”
ابتسمت وقلت:“البحث عن الحقيقة يبدأ عندما نفتح عقولنا، وأنا واثق أن قلبك الطيب وفطرتك ستقودك في النهاية إليها.”
غادر القطار، لكنني كنت أعلم أن رحلته الحقيقية لم تنتهِ بعد، بل ربما بدأت للتو.
الإيمان بالله ليس مجرد تقليد، بل قناعة مبنية على إدراك واعٍ… فمن يبحث بصدق عن الحقيقة، سيجدها.