العالم عبارة عن مزيج من الثقافات الإنسانية
الكثير من المشاكل التي تشعل الحروب والفتن بالعالم تنشأ في الأساس نتيجة لغياب اللغة المشتركة. وحينما نقول اللغة المشتركة فإننا نعني الأساليب التي تناسب بها الأفكار بين الناس هي أساليب تختلف بدرجات متفاوتة نتيجة لاختلاف ثقافات البشر.
لقد شهدت تسعينات القرن الماضي زوال كتلة المعسكر الشرقي وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي. وهي كتلة كانت تمثل قوة عظمى شكلت في مقابل المعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية نوعًا من التوازن في السياسة الدولية، نتج عنه ما تمتعت به مجموعة من الشعوب والمجموعات والدول الصغيرة أو الضعيفة من قدر نسبي من الاستقلالية فيما يخص توجهاتها العامة واحتفاظها بهوياتها الثقافية والاجتماعية لفترة طويلة.
كانت أبرز ملامح العالم الجديد هو بزوغ المعسكر الغربي الرأسمالي على المستوى العسكري والسياسي أولًا ثم تبعت ذلك التجليات الثقافية والاجتماعية الرامية إلى نقض الأنماط الثقافية والاجتماعية الأخرى المخالفة لتوجهات ذلك المعسكر، والعمل على إشاعة نمط واحد وتصويره على أنه هو النموذج الأفضل للحياة الإنسانية.
ولا نستغرب كثيرًا أن بعض المفكرين خصوصًا الذين ينطلقون من فرضية انتصار نمط بعينه التي أشاعها هذا الفهم والتي نجد أبرز أمثلته في الكتابات التي صدرت في تسعينيات القرن الماضي لعدد من المفكرين الغربيين وأبرز تلك الكتابات، أطروحة ”نهاية التاريخ“ والتي كتبها فرانسيس فوكوياما، وهو مفكر أمريكي وجد في نهاية الحرب الباردة وانتصار النموذج الغربي الليبرالي الأمريكي أنه الشكل الأخير للحياة الإنسانية على كوكب الأرض، ودافع عن فكرته من حيث هذا النمط والنموذج الثقافي، وهو خلاصة التطبيق الإنساني لفلسفة الحرية الفردية التي صارت حرية المجتمع.
ونظرًا للحالة التي كان العالم يعيشها في ذاك الوقت، فقد وجدت هذه الأطروحة رواجًا كبيرًا وتصدت لنشرها عدد من المنابر والصحف ودور النشر، واهتمت بها الدوائر الثقافية على مستوى العالم وعملت بها بحثًا ودراسة كل حسب زاوية نظره للأمور. لكن أبرز نقد وجه لهذه الأطروحة كان متمثلًا في أن الكاتب لم يستطع أن يبرر حالات الفقر المدقع والحروب المستمرة والنزاعات التي تنتشر وما إذا كانت هذه الصورة هي ما يبشر به النمط الثقافي الجديد المتمثل في ثقافة ذات بعد واحد.
غير بعيد عن هذا الأمر كانت مساهمة أخرى تمثلت في كتاب ”صدام الحضارات“ للمفكر صمويل هنتنغتون الذي قسم العالم إلى غرب وشرق وساق التباين الثقافي بين الاثنين بما خلص منه إلى حتمية أن يتم صدام شامل بين هاتين الحضارتين.
فالأساس الذي وضعه الكاتب هذه المرة لم يكن أساسًا أو نظرية سياسية، وإنما انطلق من مفهوم مبني عليه فكرة التباين الثقافي التي تقتضي أن ينقسم العالم في النهاية إلى جزءين كبيرين هما الشرق والغرب، وأن الصدام بينهما هو نهاية الاستقطاب الثقافي الكبير بينهما.
أيضًا هذه الأطروحة تعاملت مع الشأن الثقافي ككل غير تاريخي وغير قابل للتحول والتنوع، فمفاهيم الثقافة مفاهيم جدلية وليست جامدة، وهي متغيرات في حالة تفاعل مستمر مع معطيات الواقع حولها. فليس هناك شرق محض أو غرب محض. العالم هو مزيج من الثقافات الإنسانية المتداخلة والمتعددة والمتنوعة.
وأختم حديثي عن قصة شهيرة عن النبي إبراهيم : جاء رجل للنبي وطلب منه أنْ يبيت عنده، أو أنْ يضيفه، فسأله إبراهيم
عن دينه فقال: إنه مجوسي، فردَّ الباب في وجهه، فعاتبه ربه في ذلك، وقال له: يا إبراهيم تريده أنْ يغير دينه لضيافة ليلة، وهو طول عمره عايش تحت رحمتي؟؟ فقام النبي إبراهيم ولحق بالرجل: وقال الرجل فقد أتيت لك ورديتني...
فقال نبينا إبراهيم: لقد عاتبني ربي.
فرد الرجل المجوسي: نعم الرب، ربًا يعاتب أحبابه في أعدائه، ثم دخل الإسلام وآمن بالله.