آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:28 م

مباراة بلا صافرة نهاية!

فؤاد الجشي صحيفة الجزيرة

في عالم مليء بالعنف والاضطراب، تتراكم الصور والمشاهد النفسية التي تدفعنا لإغلاق بعض الأبواب التي كنا نظنّ أنها ستظلّ مفتوحة للأبد. نحن نعيش حياة تملؤها المحطات المتتالية، نركب القطار متأثرين بنهاية الوصول، لكننا نبقى صامتين، نبحث عن المحطة الأخيرة التي تمنحنا الأمان والطمأنينة.

لم يكن البشر في السابق مختلفين عنّا، كانوا يواجهون المصير نفسه، يتخبطون بين محاولات الفهم والهروب من الألم، يبحثون عن معنى للوجود، وعن نقطة استقرار وسط دوامة الحياة التي تلد من جديد بلا توقف، كما يواصل الزمن تقدّمه دون أن يلتفت خلفه. لا خيار أمامنا سوى البحث عن أمل يوصلنا إلى الغاية والهدف معًا، وإلّا فما معنى الاستمرار وسط كلّ هذا التناقض؟

إنّ الحقيقة المطلقة تبدو غائبة، وكذلك الأخلاق الثابتة، فكلّ شيءٍ يخضع للنسبية والتغير وفق الزمان والمكان. في عالمنا الحالي، تفرض علينا متغيرات العصر أن ننظر للأمور من زوايا متعددة، حيث لم يعد هناك خير مطلق أو شر مطلق، بل وجهات نظر تتصارع فيما بينها، تتأرجح بين المصالح والمعتقدات المتغيرة.

إنّ العالم اليوم ليس إلّا معركة بين تناقضات لا تهدأ، حيث تزدحم الشاشات والموجات الإعلامية بأخبار لا تتوقف، تصنع واقعًا موازيًا يغرقنا في وهم الحياد والمصداقية، لكنها في جوهرها مجرد أداة تحرك الرأي العام وتوجه الفكر البشري في مسارات قد تكون مرسومة مسبقًا. كيف يمكن للإنسان أن يجد يقينه وسط هذا الطوفان من المعلومات المتضاربة؟ كيف له أن يقرر أيّ طريق يسلك، وأيّ حقيقة يؤمن بها؟

من الزاوية الشخصية، تبدو الحياة خيارا صعبا بين التوقف عن الشعور بالألم اللحظي وبين احتمالية مواجهة ألم أكبر في المستقبل. الألم جزء من الوجود، لكنّ التعامل معه هو ما يحدّد إن كنا سنتجاوزه أم سنغرق فيه. كثيرًا ما نحاول تأجيل معاناتنا، نغلق أعيننا عن الواقع ونبحث عن عزاء مؤقت، لكنّ الحقيقة تبقى هناك، لا تتغير، تنتظرنا حتى نواجهها. نحن في معركة دائمة مع أنفسنا وقراراتنا وتوقعاتنا التي نصنعها بأيدينا ثم نصطدم بها عندما لا تتحقق كما تصورناها.

الحياة أشبه بدوران الكرة الأرضية بلا توقف، كما تدور كرة القدم في الملعب كلّيوم، تحاول أن تجذب السعادة لنفسها رغم كلّ الصعوبات. هناك من يسجل الأهداف، وهناك من يضيع الفرص، وهناك من يكتفي بالمشاهدة. كلّ فريق لديه خطة، وكلّ لاعب يسعى لتحقيق مجده الشخصي، بينما الجماهير تشاهد وتعلّق وتحكم، دون أن تكون داخل الملعب فعليًا. هذا التشبيه ليس بعيدًا عن واقعنا اليومي، فكلٌّ منّا يحاول تسجيل أهدافه الخاصة، البعض ينجح، والبعض الآخر يخفق، لكن في النهاية، تبقى الكرة في الملعب وتستمرّ المباراة.

العالم مليء بالحوار الجدلي المستمر، ذلك النقاش اللامتناهي بين اليمين واليسار، بين الصواب والخطأ، بين الحقيقة والزيف. لكن من ذا الذي يملك الجواب النهائي؟ وهل هناك أصلًا إجابة واحدة لكلّ الأسئلة؟ البعض يفضّل الغوص في تلك الحوارات الفلسفية التي لا تنتهي، بينما آخرون يختارون الفعل بدلًا من الكلام، يركزون على تسجيل الأهداف، الفعل وحده هو الذي يحدّد مسار الحياة، والكلمات وحدها لا تكفي.

يبقى التفاؤل هو الشعور الأول والأخير للحياة. قد يبدو أحيانًا وكأنه خيار ساذج، لكنه في الحقيقة هو ما يجعل الاستمرار ممكنًا، التفاؤل ليس إنكارًا للواقع، بل هو اختيار واعٍ لمواجهته دون أن نفقد القدرة على الحلم. هناك أشياء لا نتحكم بها، ومصائر تُكتب لنا دون أن يكون لنا رأي فيها، لكن يظلّ لدينا الخيار في كيفية استقبالها والتعامل معها.

الطرق ليست ممهدة، لكنّ الأمل في الوصول إلى مكان أفضل هو ما يمنح الرحلة معناها. البعض قد يختار التوقف، والبعض الآخر قد يواصل السير رغم كلّ الصعاب، لكنّ الحقيقة الوحيدة هي أنّ الزمن لا ينتظر أحدًا.