آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:26 م

أنا مشغول جدا... هل هذا حقيقي أم وهم؟

أنا مشغول جدا، ليس لدي وقت، جدولي ممتلئ، أحتاج لإنجاز المزيد من العمل... عبارات نسمعها بين الحين والآخر من البعض، لكنها في تصوري ليست دائما دليلا قطعيا على الإنتاجية أو الإنجاز، بل قد تكون غطاءً هشا ً يخفي تحته الفوضى، وسوء التنظيم، أو وسيلة للهروب من مواجهة الواقع، أو ذريعة لتبرير التقصير، نعم فقد يكون هناك وقت متاح، لكنه يُهدر في مهام غير ضرورية أو ثانوية مثل الانشغال بالتفاصيل الزائفة والوهميّة، ليُشعر البعض نفسه بأنه مهم وفاعل، بينما الواقع أن الأمور لا تجري كما هو مخطط لها في الغالب لهؤلاء الذين يدعون الانشغال، فيضيع الوقت بين وسائل التواصل الاجتماعي، وفي التصفح العشوائي، وبين التسويف والتأجيل والمماطلة فضلاً عن الإفراط في الترفيه والتنفيس والسهر وغيرها..، فليس كل حركة تقدماً، وليس كل انشغال إنجازاً، وكأن الحياة مجرد استعراض وهمي للانشغال دون معنى حقيقي، حتى إنك تجد أحدهم منشغلاً بهاتفه عند قيادة مركبته أو عند طعامه أو عند جلوسه، أو قبل نومه أو حتى فور استيقاظه من النوم، وكأنما هاتفهُ جزء لا يتجزأ منه يوجهه كيفما شاء ويستهلكه كيفما شاء، وإذا جلس أو خرج مع أحبته أو أصدقائه أو عائلته أو حتى مع فلذات أكباده تراه مشغولا مشتت البال والذهن وكأن الحياة لا تتوقف للحظة للتنفس والاستمتاع، تماماً كما لو كنا خيولا في حلبة سباق، بينما البشر العاديون يحتاجون إلى فترات من التوقف القصيرة التي تسمح لهم بالتقاط أنفاسهم والتغيير من إيقاعها، فالراحة فرصة للدماغ ليتنفس ويعيد ترتيب أفكاره، ويجدد طاقته لمواجهة التحديات بروح أكثر صفاءً وإبداعا، وهذا بالطبع لا يعني أن ليس هناك من يستخدم الوقت، وهذه العبارات كحقيقة وواقع لاستثمار وقته بتخطيط وحكمه، لتحقيق أهدافه وتطوير ذاته.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا.

هل هذا الانشغال الذي يتشدق به البعض نابع من إنتاجية حقيقية أم أنه مجرد ضجيج يملأ الفراغ وهل هم مشغولون حقا أم أنهم عالقون في دوامة لا تنتهي، ولماذا يعيش البعض هذه الدوامة المفرطة؟ وكيف يمكن التعامل معها؟ هذا ما سنسلط الضوء عليه، وسنعرفه في هذا المقال فكونوا معنا.

مفهوم الانشغال المفرط

يقولون إن الانشغال المفرط هو حالة يكون فيها الفرد غارقاً في الأنشطة والمهام اليومية دون وجود وقت كافٍ للراحة أو التأمل أو التفكير؛ مما يؤدي إلى الإرهاق الذهني والجسدي وفقدان التركيز على الأولويات الحقيقية في الحياة، وهذا ما نلاحظه بشكل خاص عند البعض من أصحاب الوظائف الأهلية أو أصحاب المشاريع الخاصة أو الحرة، حيث الانشغالات المستمرة ومتابعة الرسائل البريدية الإلكترونية أو الواتس آب وحل المشكلات الطارئة اليومية وما شابه، حيث يجد البعض أنفسهم يعملون لساعات طويلة تتجاوز الحد الطبيعي دون تخصيص وقت للأهل أو الأصدقاء أو حتى للاستراحة أو التركيز على الجوانب الشخصية، ولكن ما عذر من يعيشون في حالة من الانشغال المستمر دون ارتباط فعلي بوظيفة أو مسؤوليات مهنية واضحة أو القيام بمهام غير منتجة ويدّعون الانشغال الدائم؟

بالتخطيط نصنع النجاح

من المؤكد أننا لم نتعود على وضع الخطط، ولذلك نجد أنفسنا نقع في دوامة العشوائية وهي حالة من التخبط وعدم التنظيم؛ مما يجعلنا بدون وعي أن نخطط للفشل بدلا من نخطط للنجاح فعدم التخطيط لا يعني فقط غياب الأهداف، بل يعني أيضاً ضبابية الرؤية، وغياب الاتجاه الصحيح وضياع الجهود والموارد والإمكانيات دون تحقيق نتائج ملموسة.

فعندما نترك الأمور للصدفة أو الاجتهادات اللحظية، فإننا نضع أنفسنا في مواجهة مع التحديات الغير محسوبة، ونتفاجأ بعقبات لم نستعد لها؛ مما يجعل احتمالية الفشل أكبر بكثير من احتمالية النجاح، فالتخطيط هو الأداة التي تمنحنا السيطرة على المستقبل، وتساعدنا على تحديد أولوياتنا وتوجيه طاقاتنا نحو ما هو أكثر أهمية وتأثير بل وتجعلنا ممن يتحكم في أوقاتنا بدلا من أن أوقاتنا هي التي تتحكم بنا، أو نكون ضحية لثقافة الانشغال الزائف، وكما اعتقد أن أحد أسباب عدم تعودنا على التخطيط هو غياب ثقافة التخطيط، ولذلك ترانا نميل إلى التفاعل مع الأحداث أو المشكلات أو حتى مع الآراء والأفكار بطريقة آنية وعشوائية دون تروّ ورؤية مستقبلية أو تخطيط واضح، وهذه العقلية هي التي تجعلنا أسرى للظروف بدلا من أن نكون صناعاً لها.

ما أهمية وضع الخطة

عندما ندرك أهمية التخطيط، ونجعله جزءا من حياتنا الشخصية والمهنية، فإننا حينذاك نبدأ بتغيير مسارنا نحو النجاح، فالتخطيط ليس مجرد كتابة أهداف على ورق كما يظن البعض، بل هو عملية تفكير منهجية ومنظمة تأخذ في الاعتبار الإمكانات المتاحة والتحديات والتهديدات المحتملة والفرص المستقبلية، إنه بمعنى آخر التزام برؤية واضحة وخطوات مدروسة تضمن لنا التقدم بثبات نحو تحقيق طموحاتنا، ولذلك فإن النجاح غالبا ما يكمن في تغيير طريقة تفكيرنا فهو لا يأتي بالحظ أو الصدفة، وإنما بالتخطيط الدقيق، والتنفيذ المتقن والاستمرارية في التطوير والتكيف مع المتغيرات.

مثال بسيط على أهمية وضع الخطة

عندما تريد الخروج مع أصدقائك لرحلة معينة، فإنك تخطط للأمر حيث تتصل بصديقك فلان، وتطلب منه أن يتصل بعلان، وتحددون مكان وزمان الرحلة، وربما تحددون البرنامج والمستلزمات والأدوات وما هنالك، ترى ألا يُعتبر ما قمت به على بساطته خطة؟!، وكما أن هذا الأمر يعتبر خطة، فإن نقيضه يُعتبر تخبطاً، ولذلك أن المتخبطين أو العشوائيين أو المرتجلين هم أشخاص فاشلون حتما، ولن يدركوا النجاح إلا فيما ندر... يقول الكاتب آية الله المدرسي في كتابة «فنون النجاح» " ذات يوم جاءني صديق قديم، ومعه رجل في الأربعينات من عمره قائلا

صاحبي هذا يعاني مشكلة غريبة قد يكون لها ارتباط بالسحر، فهو لا يدخل في عمل إلا ويفشل فيه، حتى أصبح معارفه يضربون به المثل قائلين إنه صاحب «معجزة معكوسة» إذ لا يضع يده على الذهب إلا ويتحول إلى تراب...!!

فسألت الرجل عن رأسماله، فتبين أنه قد ورث من أبيه مبلغا كبيرا جدا من المال. وهو إن كان خسر معظمه، إلا أن ما بقي لا يزال كثيرا، ثم سألته عن الأعمال التي دخلها وخسر فيها لأعرف إن كان يختار الأهداف الخاطئة، فتبين أنه على العكس كان صاحب اختيارات جيدة؛ لأنها نجحت بالفعل مع آخرين.

وبعد حوار طويل معه اكتشفت مشكلته الرئيسية، فهو وإن كان يختار الأهداف الصحيحة، ويستخدم وسائل جيدة، إلا أنه لم يكن يمتلك الطريقة الصحيحة في العمل، فقد كان مثل المزارع البسيط في قرية إفريقية، الذي يزرع الأرض قبل أن يفكر من أين يأتي بالماء الذي يسقي به الزرع، ولا كيف يحصد المحاصيل وأين يبيعها..

إنه ببساطة لم يكن يخطط لأعماله بشكل صحيح، وقد أصبح صديق الكاتب من أكبر صناع السجاد بعد أن أرشده إلى عيبه.

ولذلك أقول إن التخطيط مكسب كبير إذا تم فهمه بطريقة صحيحة ومنهجية مدروسة، وتم تنفيذه بوعي وإتقان مع مراعاة المرونة في مواجهة التحديات، والاستفادة من الخبرات السابقة، كما أن التخطيط يقلل كثيرا من نسبة الأخطاء المحتملة، ويغلق الثغرات قبل التعثر بها.

التحرر من الانشغال الزائف

الانشغال الزائف هو فخ نفسي يجعلك تشعر بالإنتاجية، بينما أنت تدور في حلقة مفرغة، حيث تُستنزف طاقتك ووقتك وتركيزك الذهني في أمور ثانوية مثل الردود الفورية على الرسائل الإلكترونية أو تنفيذ مهام روتينية وما أشبه دون تحقيق نتائج ملموسة والحل قد يكمن في الخطوات التالية:

أولا: إعادة تعريف مفهوم الإنتاجية

الإنتاجية ليست بعدد الساعات التي تعملها، بل بمقدار القيمة التي تضيفها من خلال عملك ومدى تأثيرها على تحقيق الأهداف المرجوة، بمعنى آخر ليس المهم أن تعمل لفترات طويلة، بل المهم أن تعمل بذكاء وفهم بحيث تحقق نتائج فعلية بأقل مجهود ممكن مثل شخص يعمل بمقدار 10 ساعات يوميا، لكنه يقضي معظم وقته في الرد على الرسائل غير الضرورية وتصفح الواتس آب، وفي النهاية لا ينجز سوى القليل، رغم الساعات الطويلة التي يقضيها في العمل.

ثانيا: تخصيص وقت للراحة والتأمل

العمل المستمر بدون راحة يؤدي إلى الإرهاق العقلي وانخفاض الإبداع والإنتاجية، ولذلك من المهم تخصيص يوميا وقت قصير للتأمل أو المشي أو القراءة لإعادة شحن طاقتك، جرّب أن تمنح نفسك الراحة، وستشعر بأنك في وضع أفضل.

التعامل مع الانشغالات الزائفة

هناك فرق كبير بين الإنتاجية الحقيقية والانشغال الزائف، فالإنتاجية تعني تحقيق نتائج ملموسة وإضافة قيمة للعمل، إضافة إلى التركيز على الجودة والنتائج النهائية، والعمل وفق خطة واضحة، بينما الانشغال الزائف يعني القيام بالكثير من المهام غير المهمة، والتركيز على الكم دون النظر للأهمية فضلا عن الشعور بالإرهاق دون تحقيق نتائج واضحة.

ولذلك إذا أردت أن تتخلص من الدوامة المفرطة أو الانشغالات الزائفة أن تركز على المهام التي تحدث لك فرقا فعليا، وأن تتخلص من الأمور التي تسرق وقتك، وتستنزف طاقتك بلا فائدة، وأن يكون لديك خطة واضحة حتى في الأعمال البسيطة، وكما يقولون ”إن الإنجازات العظيمة هي نتائج خطط عظيمة“

وأخيرا يمكننا أن نقول: إن الانشغال قد يكون حقيقة عندما يكون مدفوعا بمهام ضرورية ومسؤوليات واضحة، ولكنه قد يصبح وهماً إذا كان مجرد دوامة من الأنشطة غير المنتجة التي تستنزف الوقت والجهد والمال دون فائدة حقيقية، والحل يكمن في التخطيط وإدارة الوقت والتركيز على ما يحقق الأثر الفعلي بدلا من مجرد الانشغال بالحركة دون تقدم