آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:26 م

أحمال تستنزف

شهر رمضان دورة تهذيبية للنفس يخرج بعدها الصائم بمجموعة من المكتسبات ونقاط القوة في إرادته وصبره، وهذا الأمر التغييري والإيجابي لا يقتصر على جانب محدد في شخصيته، بل يشمل كل الجوانب الإيمانية والأخلاقية والمعرفية والاجتماعية، نعم فالصوم له ارتباط وثيق وتأثيري على تعزيز الروابط والعلاقات بين أفراد المجتمع، والعبادات الجماعية والاجتماع في المساجد والموائد واللقاءات تعزز عُرى تلك العلاقات، حيث يشعر المرء بالأمان والطمأنينة في محيط يمنحه الاحترام والتقدير، بل ويعد الشهر الكريم فرصة للتخفيف من التوتر والخصومات وإذابة الخلافات، حيث تلقى الدعوات الأخوية لعودة المياه إلى مجاريها وترميم العلاقات صدى طيبا بين النفوس المتشاحنة، وخصوصا إذا ما دعّمنا تلك الدعوة الإخائية بحلول الشهر الكريم وظلاله على النفوس النقية من أغلال الكراهية والأحقاد، إذ أن تلك الخصومات والمقاطعة بين الأهل والجيران يمكنها أن تشكل حاجزا يمنع بركات ورحمات شهر الله تعالى، ففي أجواء الخلافات وارتفاع منسوب التباغض والتشاحن يتحرك الشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء والمتمسكة بحبال الأهواء نحو الإساءة للآخر والانتقاص من شخصيته وانتهاك خصوصيته والحديث عنه بسوء، فأي تقوى وخوف من الله تعالى يمكن أن يتحقق كنتيجة نهائية لصوم الشهر الكريم، ونحن لا نردع أنفسنا عن التجاوز الأخلاقي على الآخرين؟!

كما أن الشهر الكريم يربي النفوس على التصالح مع النفس وروح التسامح وتجاوز بؤر الخلافات، فإن أقصر الطرق لطلب العفو والمغفرة الإلهية هو الصفح عن الآخر والتغافل عن هفواته وفتح صفحة جديدة معه تخلو من ملوثات الإساءة والغمز واللمز، وأما الاستمرار في خط الخصومات وعدم إعطاء الإنسان نفسه فرصة للمراجعة والتأمل، فسيقوده نحو نهاية مؤلمة تشكل خسارة في الدارين.

والشهر الكريم يوفر لنا فرصة لالتقاط الأنفاس والتوقف لمحاسبة النفس، مشحونة تلك الوقفة بأجواء إيمانية تهدّئ من منسوب التوترات، فالواحد منا مدعو إلى تطهير نفسه من الانفعالات الزائدة وتصحيح المواقف السابقة وطيها.

الشهر الكريم فرصة لا تُعوّض لتصحيح العلاقة بالله تعالى والتقرب منه بإتيان الأعمال الصالحة وتنزيه النفس عن شوائب الآثام والمشاعر السلبية تجاه الآخرين، وهذا التصالح مع الذات لا يقتصر على الجانب العبادي بمفهومه الضيق كالصلاة والصدقة مثلا، بل العبادة مفهوم شامل يجمع جوانب حياتنا الأخلاقية والاجتماعية، فنلحظ الإرادة والرضا الإلهي في كل ما يصدر منا من أقوال وأفعال، ومن القربات إلى الله تعالى مسامحة الآخرين ورأب الصدع الأسري والاجتماعي، فالمجتمع الذي تسوده الكراهيات والأحقاد والضغائن لن يكون فاعلا ومزدهرا، وروح الثقة والتآلف والتماسك تتطلب منا تجاوز تلك الخلافات والعمل على إصلاح ذات البين وتهدئة الأجواء المتوترة.

الأجواء الإيمانية والروحية في الشهر الكريم والإقبال بنفس متوجهة للخالق وغير مشغولة بأمور الدنيا هي عماد ولب الأعمال العبادية، وذلك القلب المشحون حنقا وغضبا وكراهية للآخرين وتشابكت فيه خيوط الخصومات والقطيعة، هل يمكنه أن يكون حاضرا ومتأثرا في أجواء الدعاء والمناجاة، أم سيكون خاملا لا يتفاعل بسبب غياب حالة الصفاء والنقاء منه؟!