القرآن وصناعة اليقين في نفسك «2»
عرف الجرجاني في كتاب التعريفات اليقين بعدة تعريفات قال: هو «طمأنينة لقلب على حقيقة الشيء» يقال «يقن الماء في الحوض» إذا استقر فيه. وقيل: «اليقين رؤية العيان». وقيل تحقيق التصديق بالغيب بإزالة كل شك وريب. وقيل اليقين نقيض الشك. وقيل اليقين رؤية العيان بنور الإيمان. وقيل اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب.
وفي القرآن الكريم اليقين بدرجاته هو الوعي بتمامه، وهو اليقظة كلها، وهو خاتمة إيمان القلب ومكافأته..، والعجز عنه غربة للروح، وشتات للنفس في رغباتها وميولها وإراداتها، وحيرة مقلقة للعقل.. ولذا كل سبل القرب إليه سبحانه وتعالى ينبغي أن توظف لنيله، والوصول إليه. ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: آية 99].
لكل عمل غاية يبتغيها ويسعى إليها..! وهنا العبادة سير واليقين وطنها الذي يأنس وحشتها ويزيل عنها غربتها..! النفس التي صبرت على خطوات السير وطوله، وصبرت على أثقال أحماله.. حين تبلغ اليقين وتصل إليه.. ينعم عليها بأعظم عطاياه وأعظم هباته.. يرفعها إليه.. ثم يغير كينونتها فترى ما لا يراه غيرها، وتعرج إلى مرتبة تدنيه من الملائكة في طهرها وميولها. ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: آية 75] تجلى قلب إبراهيم.. ورأى في تبتله، ونال الصدق في عبادته.. زال عن قلبه ما زال عنه، ورأى قلبه الغيب حضورا، وستحال الحضور غيبا.. وتصاعد به الوعي إلى إدراك عالم الملكوت وهو بعد في عالم الملك... وإن هذه المنازل كلها.. ليكن من الموقنين..!.
في كتاب الله تعالى العبادة التي تنفض عنها دون أن تبلغك يقين قلبك، وتعجز عن رفع الواعي في ذاتك، ولا ترفعك على نفسك في الميول والإرادة لعالم الملكوت هي عبادة ناقصة، ومتعطلة.. ولا تؤدي وظيفتها..! غاية العبادة اليقين و. ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: آية 4].. يعرف اليقين في اللغة بأنه زوال الشك، وانعدامه.
وهو صفة من صفات العلم التي تفوق المعرفة. وبهذا يتحقق معنى الإيمان بالآخرة دون احتمال غيرها.. واليقين بالله دون احتمال غيره.
.. وفي القرآن الكريم.. ينقلنا إلى صورة الضد.. النفس البشرية، بعد انقطاع السبل، وزوال عوالم الاختبار والتجربة، وحين تنال اليقين بعد معاينة الحياة بعد الموت تطلب الرجوع لتصوب أفعالها، وتصحح ميولها وترفع من وعي حقيقتها الوجودية..
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: آية 12] إنه يقين يشبه الندم على ما لا يمكن نيله ولا يمكن صاحبه منه..!. ونلاحظ أن العمل الصالح. سقط لسقوط اليقين، وزال بزواله، اليقين يصفه الله كعلة منتجة للعمل الصالح. أي يحدث التغير في الميول والإرادة والفعل..!.
القلب الفارغ من اليقين لا يتقرب إلى رب لا يستقينه ولا يملئ عليه حضوره، لأن اليقين لا ينفك عن الحضور، ولا الحضور ينفك عن اليقين.. ويموت على العطش من مات قلبه لغيابهما فيه
﴿رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ [الدخان: آية 7] مادة «يَقَن» ومشتقاتها وردت في القرآن في ثمانية وعشرين موضعاً «28».. السبب الظاهر لي أن رؤية القلب لربه.. يفتقر إلى اليقين.. واليقين هذا ينال بالسعي إليه، ورفع موانعه، وتحقق شروطه وتمام أركانه.. فهو كغيره من فضائل النفس له حقوق يجب أن تؤدى.. وفرائض يجب أن تقام.
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: آية 2].
غالبا يقرن الله تعالى اليقين بالهدى والفلاح.. من يهديه الله تعالى لن يضل، هداية خاصة لمن بلغ إلى منزلة اليقين، ودفع ما فرضته عليه من حقوق، وما بذله من تعب وجهد غير يسير في البلاغ إليها.. ﴿... وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: آية 4,5]. • دون ريب لا فلاح خير من هذا هدي من الله تعالى يتنزل على قلب يغمره يقينه بربه المنعم عليه بقربه ورحمته وعظيم لطفه..
• ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر: آية 5]
• ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر: آية 7]
• ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: آية 95]
قال ابن القيم رحمه الله: «مَن أَخبَرك أنَّ عنده عسلًا وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذُقتَ منه، فالأول عِلم اليقين، والثاني عَين اليقين، والثالث حق اليقين».
في خاتمة التجربة الروحية «العاقبة للمتقين». ليس لأنه بلغ بوعييه الخواتيم قبل بلوغها، بل لأنه عاش مترفا بنعيم الروح، ومتعة التجلي على الجمال قبل النيل وقبل الرجعة وقبل المنتهى والطي. بقي أن تسعى لنيله قبل أن يرفع عن قلبك سبل الوصول إليه..!!