آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 7:17 ص

حين تصبح العقول مقابر للأفكار… كيف نكسر الصمت؟

عبد الله أحمد آل نوح *

المعرفة قوة، لكنها لا تحقق قيمتها الحقيقية إلا عندما يتم مشاركتها مع الآخرين. في كل مجتمع، هناك أفراد يحملون تجارب وخبرات ثمينة، سواء في مجالات علمية أو مهنية أو حياتية، لكنها تظل في كثير من الأحيان حبيسة العقول، لا تجد طريقها إلى الآخرين. وكأنها كنوز دفينة، مدفونة تحت طبقات من الصمت والتردد، لا يكتشفها أحد ولا يستفيد منها المجتمع. في عالم يتغير بسرعة، حيث تتطور العلوم والتقنيات بوتيرة غير مسبوقة، يصبح نقل المعرفة وتبادل الخبرات ضرورة لا غنى عنها، وليس مجرد خيار شخصي. فالمجتمع الذي يشجع على مشاركة المعرفة هو مجتمع يحقق تقدمًا مستدامًا، وينمو بصورة أسرع، ويخلق فرصًا جديدة للأجيال القادمة، مما يجعل نقل الخبرة مسؤولية جماعية تسهم في تعزيز التنمية والابتكار.

يشير الكاتب تود هنري في كتابه“مت فارغًا”«Die Empty» إلى أن أكثر الأماكن امتلاءً بالأفكار العظيمة هي المقابر، حيث يدفن الناس مواهبهم وأفكارهم غير المستغلة معهم. هذه الفكرة تدفعنا للتساؤل: لماذا ننتظر حتى يفوت الأوان لمشاركة معرفتنا مع الآخرين؟ لماذا تبقى الخبرات والتجارب الشخصية غير متاحة رغم قدرتها على إحداث فرق في حياة الآخرين؟ إن نشر المعرفة ليس مجرد عمل تطوعي، بل هو استثمار حقيقي في مستقبل المجتمع، حيث يساعد على نقل الخبرات والتجارب إلى الأجيال الجديدة، ويمنح الأفراد فرصة البناء على ما تحقق، بدلاً من البدء من الصفر. وكما يقول المثل العربي القديم:“زكاة العلم نشره”، فإن العلم لا يكتمل إلا بمشاركته مع الآخرين، فهو ليس ملكًا فرديًا، بل هو تراكمي، يبنى عليه جيل بعد جيل، وكلما زاد انتشاره، زادت قيمته وتأثيره.

لكن كيف يمكننا كسر هذا الصمت وإخراج هذه الكنوز من العقول إلى الواقع؟ هناك العديد من الوسائل الفعالة لنقل المعرفة وجعلها متاحة للجميع. التدوين والكتابة من الطرق الأساسية، حيث يمكن للأفراد توثيق تجاربهم ونقل معارفهم عبر تأليف الكتب أو كتابة المقالات أو مشاركة المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعلها متاحة للأجيال القادمة. كما يمكن أن يتم عبر التدريب وورش العمل، التي تتيح للأشخاص تبادل خبراتهم مع الآخرين بطرق عملية وفعالة، فضلاً عن التوجيه والإرشاد، حيث يمكن للخبراء أن يكونوا مصدر دعم للشباب والمبتدئين، لمساعدتهم على تجاوز العقبات والاستفادة من التجارب السابقة. ومع التقدم التكنولوجي، أصبحت وسائل نشر المعرفة أكثر تنوعًا، فمنصات التعليم الإلكتروني إضافة إلى المحتوى التعليمي عبر الفيديوهات والبودكاست، تتيح نقل المعرفة إلى جمهور واسع دون قيود جغرافية، مما يسهم في تعزيز نشر الفكر والخبرة على نطاق عالمي.

إلى جانب الأفراد، تلعب المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية والشركات دورًا أساسيًا في نشر المعرفة، حيث تساهم برامج التدريب والتعليم المستمر في تمكين الموظفين والطلاب وتطوير مهاراتهم، ما ينعكس إيجابًا على الإنتاجية والابتكار. كما أن المبادرات المجتمعية، مثل المنتديات الفكرية والمجموعات التعليمية، تسهم في خلق بيئة تعاونية تعزز من تبادل المعرفة بين مختلف الفئات، مما يساهم في تعزيز ثقافة العطاء المعرفي داخل المجتمع.

مشاركة المعرفة لا تنعكس فائدتها على الأفراد فقط، بل تمتد لتشمل المجتمع ككل، حيث تسهم في تسريع التقدم في مختلف المجالات، إذ يمكن للأجيال القادمة البناء على الإنجازات السابقة بدلاً من إعادة اختراع العجلة. المعرفة تمنح الأفراد القوة لاتخاذ قرارات أفضل وتحسين حياتهم، مما يعزز الوعي المجتمعي ويجعل المجتمع أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات. كما أن تبادل المعرفة يعزز روح التعاون والتضامن، حيث يصبح كل فرد جزءًا من شبكة معرفية تدعم بعضها البعض، ما يؤدي إلى ازدهار المجتمعات. المجتمعات التي تشجع على مشاركة المعرفة تتقدم بسرعة، وتتحول الأفكار الفردية فيها إلى مشاريع جماعية تؤدي إلى ابتكارات جديدة، على عكس تلك التي تحتكر المعرفة، حيث تبقى متأخرة وغير قادرة على المنافسة عالميًا.

إن نشر المعرفة ليس مجرد اختيار شخصي، بل هو مسؤولية اجتماعية تساهم في بناء أمة أكثر وعيًا وتقدمًا. كل شخص يمتلك تجربة أو معرفة قد تكون ذات قيمة للآخرين، وعندما يشاركها، فإنه يترك إرثًا فكريًا يستمر تأثيره حتى بعد رحيله. وكما قال تود هنري في كتابه“مت فارغًا”:“لا تدع أفضل ما لديك يذهب معك إلى القبر”، فالفرصة لنقل الخبرات ونشر المعرفة قائمة اليوم، وهي مسؤولية يجب على الجميع تبنيها. إن نقل المعرفة يمكن أن يكون الفارق الذي يغير حياة شخص ما، فابدأ اليوم، شارك فكرة، اكتب مقالة، قدم نصيحة، فربما تكون معرفتك هي المفتاح الذي يحتاجه أحدهم لتحقيق النجاح. فلنكسر الصمت، ولنكشف عن الكنوز المدفونة داخل العقول قبل فوات الأوان.

عضو مجلس المنطقة الشرقية ورجل أعمال