آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 4:46 م

المراجعة الذاتية

ورد عن أمير المؤمنين في صفات المتقين: فهم لأنفسهم متهمون» «نهج البلاغة ج 2 ص 162».

من أهم سمات النجاح والتألق في شخصية الإنسان إجراء عملية نقد وتدقيق في كل ما يصدر منه من كلمات ومواقف وتصرفات، فتصور الوصول إلى الحالة المثالية والخلو من العيوب والنقائص آفة وخطأ سببه وهم العظمة والجهل بحقيقة النفس والسمات الشخصية، وليس هناك من طريق لتقييم الفرد نفسه ووضعها على ميزان المعرفة والتدقيق لاستظهار نقاط القوة أو الضعف، إلا من خلال محاسبة النفس وملاحظة ما يصدر منه من أقوال وأفعال والوقوف أمام مرآة النفس بعيدا عن رتوش حب الذات السلبي، مثل هذا التفكير الصائب الذي يتعامل مع النفس البشرية بواقعية وأنها في معرض التقصير والاشتباه والجهل والخطأ، سيتجه بالفرد نحو التحسين والتطوير في قدراته وأدائه والتخلص مما يلحقه من أخطاء، فهذا الوعي والنضج الفكري يسدد مبدأ تحمل المسئولية لما يصدر منه وتصويب ما يخرج من مواقفه عن سياق الصوابية والانطلاق مجددا بعد اكتشاف أوجه التقصير، وأما من يعيش وهم المثالية والتكامل في جميع صفاته ولا يقبل فكرة صدور الخطأ منه، فسيتنقّل بين حفر الأخطاء والتقصير ويبقى قابعا في أسفل سلم الأداء والتنفيذ والفاعلية والتأثير، فالأمر لا يتعلق بالأماني الكاذبة والأحلام الوردية وتصديقها بينما الواقع يخالف ذلك، ومن حوله يبصرون ويدققون ويكتشفون ما عنده من أخطاء، بينما هو ضحية نرجسيته وجهله والنتيجة هي الاستمرار في مسلسل الأخطاء، وأما الناجحون في حياتهم فهم من يجرون مراجعة ذاتية لكل ما يصدر عنهم مع تحمل مسئوليته، بعيدا عن إسقاط الخطأ على أمور خارجية كالأشخاص والظروف غير المؤاتية والخارجة عن قدرتهم وإرادتهم.

وهنا نواجه مبدأ الثقة بالنفس وبالقدرات والذي نتوهم تعارضه مع فكرة اتهام النفس بالتقصير، والحقيقة أن فكرة الثقة بالنفس بالنحو الإيجابي هي نتيجة تحصيلية لإجراء بحث وتدقيق مستمر لمواقفه، بينما الثقة بالنفس السلبية فهي الصادرة من توهمات وجهل بعيد عن الأداء الواقعي، فالواثق من نفسه لا يعتقد بأنه وصل إلى قمة المجد والكمال، بل هو عارف بحجم إمكانياته ويضع سقوفا محددة ومتناسبة مع أهدافه وقدراته، وفي ميدان البحث المعرفي والأداء السلوكي والمهني يعتقد بأنه يعمل بمستوى معين، وعليه أن يجري تدقيقا مستمرا من أجل تحسين الأداء وانتقاله إلى مراحل متقدمة وقد تسلح بخبراته وتجارب الآخرين.

وهم الكمال وغرور النفس يدفع بالفرد نحو هاوية الإخفاق والعمل المخدوش بالنقص والتقصير، ولا يكلّف نفسه أن يتفحّص أي فكرة أو مشروع يعمل على تنفيذه والبحث عن احتمال الخطأ أو التعثّر، ولن تقع يده يوما على مجهر الفحص والتدقيق لاعتقاده بأنه على قمة الهرم، وهذا الوهم سينعكس سلبا على مسيرة حياته ومجمل أعماله وعلاقاته.

لن يكون النجاح والتقدم والتميز حليفا إلا لمن يجرون مراجعة ذاتية لأعمالهم، وكأنهم يقفون في قفص الاتهام ويواجهون محكمة تتهمهم بالتقصير والاشتباه، وعليهم خلالها أن يقدموا تقريرا يبينون فيه أوجه التمامية والتحقق من صوابية ما يقومون به.