آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 1:45 م

القرآن وصناعة اليقين في نفسك

الدكتور محمد المسعود

بين عالم الغيب وعالم الشهادة تقابل وتضاد فهذا يُدرك بالحس، ويُحاط بتمام علمه، ويبلغ العقلُ فيه منتهاه، وهو قادر على الفعل فيه بيد لها نصيبًا من القدرة عليه!. وهو شهود دائم، وحس غالب، يستوعب اللواحظ، ومدركاتها ويقبض على انفعالاتها، شاهد عليها يقظة وحضورًا دون سعي لتلك اليقظة، ولا طلبا لهذا الحضور.

وعالم الغيب! هو إيمان محض، تتفاوت فيه الدرجات، ولا تناله الحواس بأدواتها. وليس للقلب فعل فيه، ولا تملك قدرة عليه، وهذا القلب في إيمانه بالغيب واستحضار يقينه به بحاجة إلى سعي يقظ دائم ليناله ويصل إليه، ويرتفع فيه، ولا يرتفع إلى اليقظة إليه، إلا بمنزلة هي أسمى من العقل المقيد والمحدود بالعجز عن إدراك ما لا يستطيع تصوره، كالغيب وعوالمه! وتسمى هذه المنزلة ”الوعي“.

﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [ الحاقة: 12]

وهو إدراك يوظف العقل، ولكنه يتفوق عليه، وما يدركه الوعي بالغيب منه، وفيه يتجاوز أدوات العقل لغته مفاهيمه أحكامه وتصوراته المقيدة بالقياس على مسبقاته وحدها يحمل عجزه في تصور غير المسبوق به.

ولهذا لم ينل العقل الآلة والقدرة على أن يدرك ذات الله أو أن يتصوره أو أن يحيط به في الكيف؛ لأنه لا شيء في العقل مثله ليتصوره قياسًا عليه، ولا يحيط بمنتهاه ليدرك كنهه!.

ولكن القلب والروح تتعالى وتعرج وتقترب بوعيها المتعالي على العقل، حتى تبلغ ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏ * فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى‏ * ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى‏ [النجم 8 - 11]

ليس هنا إعمال عقل، وليس هناك أدواته، ولا تحضر فيه أحكامه هنا رؤية يقين لا يكذب فيها الفؤاد، ولا يطغى بما هو فيه، أو بما ناله وبلغه.

وفي سورة البقرة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فحين يطهر القلب ينعم الله تعالى عليه ببصيرته، ويرفع عنه حجبه كلها، وينعم بوعي تام في غير نقص. ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ ق: 22].

الله تعالى يخبرنا أن هذا النوع من الوعي، والعلم يأتي هبة منه، كمكافأة لصلاح القلب، وطهارة الباطن ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [ الكهف: 65].

”ليس العلم بكثرة التعلم ولكنه نور يقذفه الله في قلب من يشاء“. العلم هنا ليس المعلومات الغائبة، المعني به هنا هو الوعي ”إدراك الحقائق“، فيرتفع عن النفس التناقض، ويزول عنها الشتات، وتبصر ما لا تبصره العيون بطول تحديقها، ويسمع ما لا تسمعه أذن مصغية، ويلم بما لا يحيط به غيره، وهو فقه القلب وفهمه ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" سورة الأنبياء.

غالبا في الوعي، وبصيرة الباطن الناس بهذا الوصف القرآني العظيم: ﴿. لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [ الأعراف: 179] العمى الوجودي هنا له بعد لا ينفصل عن عالم الغيب، وعالم الشهادة محض سبيل إليه!

لديهم دائمًا أداة قادرة على رفعهم لمنزلة الوعي، ولكنه طريق لم يسلكوه. وربما كانت منزلة لم يرتفعوا إليها، عجزا عنها، أو عدم استحقاق لها.!.

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحج: 46]

ذلك لأن بصر العين لا يسري من عالم الشهادة إلى عالم الغيب العين مقيدة بالمحسوس، ولا تنفذ إلى غيره، ولكن بصر القلوب وبصيرتها هي الاستنارة في عوالم الغيب بأمادها الممتدة بلا حد وبأعماقها البعيدة، وحين يحشره الله تعالى أعمى في الرجعة إليه.

لأن الآخرة هي التي يتجسد فيها الذات والأفعال والصفات، فإذا كان قلبك أعمى لا ينفتح على ربه في الغيب الحاضر في نفسك، وفي الآفاق وفي تجلياته على السموات والأرض كلها، وتجليه على قلبك في لحظة وعي نقية ومتيقظة.

في خاتمة عمرك، ستُستجلب إلى الله بصفتك الملازمة لذاتك حضوره في وعيك وقلبك، أو العمى عنه ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء: 72] وضلال السبيل هنا.

لأن كل نفس مشغولة بذاتها، ومثقلة بأحمالها!.

لن تجد أحدا يمنحك نورا تضيء به ظلمة قلبك

الذي لم تضيئه طيلة عمرك!

ولن تجد أحدا يهديك السبيل إليه لينعم عليه برحمته!

وأنت الذي ختمت على قلبك، وسمعك حتى لا تصل إليه

ولا يصل إليك!.

العمى فيما يظهره القرآن الكريم هنا ليس في عدم رؤية المعلول، ولكنه في العجز عن رؤية العلة!.

ليس في عدم رؤية الأسباب، بل في العمى عن رؤية مسببها!. العمى ليس في عدم رؤية الحس، ولكن العمى الحقيقي في العجز عن رؤية الغيب أو العجز عن الارتفاع إليه والعجز عن بلوغ وعيه والشعور بكنهه والنيل من عذوبته غذقا وريا ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا [الجن: 16]

هذه هي النافذة الأولى في حديثنا عن صناعة القرآن الكريم لليقين في قلوبنا المبتلاة بالشتات والغشاوة والقسوة وللحديث تتمة في الجزء الثاني. إن شاء الله تعالى.