آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 1:45 م

من أنا؟

عماد آل عبيدان

رؤية وجودية في فكر أهل البيت ونبي الرحمة محمد ﷺ: التحديات والفهم الحديث

تساؤل الإنسان الأزلي“من أنا؟”لا يتوقف عند مجرد التفكر الوجودي أو الفلسفي، بل هو إشكالية عميقة تلامس جوهر الكينونة الإنسانية في كل زمان ومكان. هذا السؤال يتداخل مع الأسئلة الأخرى حول الهدف من الحياة، ومعنى الوجود، وعلاقة الإنسان بالعالم والكون من حوله. في هذا المقال، نستعرض الإجابة على هذا السؤال من خلال منظور فكر أهل البيت والنبي محمد ﷺ، بينما نربطها بالفهم الحديث لتحديات العصر الذي يواجهه الإنسان، وكيف أن بعض الأفكار والممارسات قد أبعدت الإنسان عن معرفة نفسه الحقيقية، لتدفعه نحو مسارات مختلفة تصنع أزمة وجودية جديدة في حياة الكثيرين.

من أنا في فكر أهل البيت ونبي الرحمة محمد ﷺ؟

إن فكر أهل البيت يتجاوز التعريف السطحي للإنسان ككائن بيولوجي أو اجتماعي، ليُفهم الإنسان ككائن روحي، يعيش في علاقة مباشرة مع الله سبحانه وتعالى. كما في قول الإمام علي :“من عرف نفسه فقد عرف ربه”، يُفهم الإنسان من خلال معرفته بذاته كما هي مرآة للحق الإلهي، مما يعني أن معرفة الإنسان لجوهره الروحي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمعرفته بالله. الإنسان، من هذا المنظور، ليس مجرد كائن مادي يتحرك في الزمن والمكان، بل هو كائن يسعى للكمال الروحي، ويُقدر ذاته من خلال السعي لتوحيد الفعل والقول والقلب.

النبي محمد ﷺ أكد هذه الحقيقة في قوله:“من عرف نفسه فقد عرف ربه”، كما جاء في حديثه الشريف. وقد بيّن ﷺ أن الإنسان لا يمكنه فهم ذاته إلا عندما يلتزم بالقيم الأخلاقية، فيعيش علاقة نقية مع الله، حيث يقول ﷺ:“إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. هذه المكارم هي الطريق الذي يحدد هوية الإنسان الحقيقية ويجعله قادرًا على تحقيق كماله الروحي.

التحديات الحديثة: غربة الإنسان عن نفسه

في عصرنا الحديث، ظهرت تحديات عديدة أثرت بشكل كبير على كيفية فهم الإنسان لذاته. على الرغم من التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا، فإن الإنسان المعاصر يعاني من أزمة وجودية تمثل الغربة عن ذاته. هذه الغربة ناتجة عن الانفصال المتزايد عن الجوهر الروحي والروابط العميقة مع الله، وهي مشكلة تفاقمت بفعل الحياة المادية السريعة والتكنولوجيا التي أصبحت تستهلك وقت الإنسان واهتمامه.

من التحديات التي تواجه الإنسان في عصرنا اليوم، هو فقدانه للتوجيهات الأخلاقية والروحية التي كانت تمثل أساسًا في معرفته بذاته. كثير من الناس اليوم ينجذبون إلى عالم ظاهر لا يعتني بالقيم الروحية، فتسود الانغماس في الأنانية، الفردية، والتنافس على المكاسب المادية. هذه الممارسات تبتعد بالإنسان عن المعرفة الحقيقية لذاته، وتجعله أسيرًا للمتغيرات الظرفية دون معرفة حقيقية لهويته.

الإنسان المعاصر، الذي يسيطر عليه مبدأ الاستهلاك والتسلية، يقف عاجزًا عن الفهم العميق لمعنى الحياة. وقد يكون هذا التوجه مدفوعًا بإغراءات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي تشوه صورة الذات، وتجعله يبحث عن هويته في المظاهر والأنماط الخارجية بدلًا من الغوص في أعماق نفسه.

تحديات الفهم الحديث: انفصال العقل عن الروح

في الوقت نفسه، تكمن إحدى أبرز التحديات في تزايد العقلانية التي تهدف إلى تقسيم الحياة إلى مكونات مادية، وتحصر الإنسان في دائرة العقل المادي، دون أن تفتح له أبوابًا للوعي الروحي أو العقل الباطني. فالعقل في العصر الحديث أصبح يبحث عن المنهجيات العلمية التجريبية في كل شيء، مما أدى إلى فصل الروح عن الجسد، أو على الأقل تقليص دورها في تحديد هوية الإنسان. هذا الفكر التجريبي، الذي يعظم التجربة الحسية والتقنية، يحد من قدرة الإنسان على التأمل في ذاته وفي الكون من حوله، ويعطل استجابة الروح لحقائق الحياة الكبرى.

لقد ابتعد الإنسان عن سؤال“من أنا؟”لأن وسائل الحياة المادية طغت على حياته، وأصبح يفتش عن ذاته في ما هو خارجي - في المال، والشهرة، والمكانة الاجتماعية، مما أوقعه في فخ الأوهام. في حين أن فلسفة أهل البيت والنبي محمد ﷺ تركز على التوجه الداخلي، حيث معرفة الذات الحقيقية تبدأ من القلب والعقل الواعي بالعلاقة مع الله.

الابتعاد عن معرفة الذات: تحولات معاصرة في الهوية

إحدى النتائج المدمرة لهذا الانفصال بين الإنسان وذاته هي تشظي الهوية. في الماضي، كان الإنسان يعرف نفسه من خلال الانتماء إلى قيم وروابط اجتماعية وأخلاقية مستقرة، كما كان مرشده في ذلك هو القيم الدينية والمبادئ التي قدَّمها أهل البيت والنبي محمد ﷺ. أما اليوم، فقد أصبحت هذه الروابط ضعيفة أو غائبة، ليحل مكانها التعددية المفرطة والتنوع الفكري غير المقيد، الذي يجعل الإنسان في حالة من التشتت الوجودي.

وتظل التحديات تتفاقم عندما يُبنى الهوية على المعايير التي لا تستند إلى قيم ثابتة، بل إلى رغبات آنية وأفكار مؤقتة. بينما يقدم فكر أهل البيت والنبي ﷺ بوصلة واضحة للهوية الحقيقية، وهي الهوية القائمة على القيم الأخلاقية العالية، والارتباط الروحي بالله، والنظرة المتكاملة التي تسعى إلى تربية العقل والنفس وفقًا للمنهج الإلهي.

الخاتمة: العودة إلى الذات الحقيقية

إن سؤال“من أنا؟”في العصر الحديث لا يمكن الإجابة عليه إلا من خلال العودة إلى الجذور الروحية والأخلاقية التي وضعها النبي محمد ﷺ وأهل البيت . المعرفة الحقيقية للذات لا تكمن في إنكار الروح أو العقل، بل في تكامل الجوانب المادية والروحية، في التوازن بين علم الإنسان وعقيدته، بين حياته الشخصية والعلاقات الاجتماعية التي تؤثر في تكوينه.

من خلال العودة إلى تلك الرؤية الشاملة التي تقدمها تعاليم أهل البيت والنبي محمد ﷺ، نستطيع أن نعيد اكتشاف هويتنا الحقيقية، وأن نعيد التوازن بين العقل والروح، بين التقدم المادي والتطور الأخلاقي، لنصل إلى المعرفة العميقة التي تجعل من الإنسان مخلوقًا قادرًا على تحقيق غاياته العليا في الحياة، ومتكاملًا مع ذاته ومع الخالق.