آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 7:17 ص

القصيدة بين الرؤية العاطفية والمعنى المتجسد: تحليل لأسلوب الشعر وبلاغته

عماد آل عبيدان

وسَال قلبي عَلى الأيّام يغسِلهَا
‏فيستجيرُ الحَصى المنذور للطُّرُقِ

‏و كلّ قلبٍ يرى في العشق معجزةً
‏كأنّه الماء يحيي اللّون في الخرقِ

‏كأنّ عطرا هَوَى مِن فرط فتنتهِ
‏بين المرايا... لينسى شهوة الغرقِ

‏و العاشقون.. بلا أسماءَ أعرفهم
‏إذ ينثرون على أشواقهم عبقِي

هُنا نصٌّ مخمَّرٌ بالرؤى، معتقٌ في زجاجة الصور، يراقص المعنى لكنّه لا يعانقه، فتظل العاطفة فيه عطرًا معلقًا في هواءٍ مترف، للشاعرة التونسية هندة محمد والذي يحتاج يدًا تشدهُ أكثر إلى نبض القلب.

الشعر هو الأداة الأسمى التي تُترجم أعماق النفس البشرية بألوانها الزاهية وأشجانها المتداخلة، وهو في جوهره رحلة لاكتشاف المعنى بين خيوط الألفاظ وأصداء المشاعر. ومن هذا المنطلق، تأتي الأبيات التي أمامنا كمنبع عاطفي نابض، حيث تتداخل الصور المجازية مع الأحاسيس في سياق شعري يبدو في ظاهره خلاصًا من الواقع إلى عالمٍ من السحر. لكن، في قلب هذا السحر، تكمن حاجة ماسة إلى لمسة من التوازن بين الخيال والمعنى، تلك اللمسة التي يمكن أن ترتقي بها القصيدة إلى آفاق جديدة من الإبداع.

تذويب الصورة الشعرية: بين الترف والانفلات

في مطلع الأبيات، يطفو على السطح التجريد العاطفي كأنه الرياح التي تداعب أوراق الخيال، ثم تطوف بعيدًا عن الهدف المقصود. الصورة الأولى، حينما يتساءل الشاعر“وسال قلبي على الأيام يغسلها”، تقدم لنا صورة نفسية ذات بعد وجداني عميق، لكنها تُسقط القارئ في فخ الغموض، وتغرقه في طوفان من التأملات الزائدة. القلب الذي يسأل عن الأيام في هذا السياق ليس فقط قلبًا عاشقًا، بل هو رمزٌ للإنسان في بحثه المستمر عن ذاته، وعن الزمن الذي يمضي دون أن يتحقق له الغسيل المنشود. ومع ذلك، تُفقد هذه الصورة جزءًا من قوتها في العبارات التالية، حيث يتجه النص نحو مجازات مفرطة.

وُظِّف الحصى المنذور للطُرق، كتشبيهٍ غريب، ليُجسِّد الذل والانكسار في مواجهة التحديات الزمنية، ولكنَّ ذلك يؤدي إلى تشويش التركيز بين الصورة والهدف الشعري. الصورة المبالغ فيها في هذا السياق تعطي القارئ إحساسًا بأن الشاعر يتغنى بالصورة أكثر مما يعبِّر عن المعنى بوضوح. هنا، تتأثر القصيدة بتداخل العديد من الرؤى والمجازات، لكن للأسف تفقد قدرتها على تحقيق الاتصال العميق بالقارئ.

العشق كمعجزة: بين المجاز والتكرار

البيت الثاني يشير إلى العشق كمعجزة، وهو ما يحمل من قوة فكرية وجدانية ما قد يفتح للقصيدة أفقًا أوسع، إلا أن الإطار الذي يضع فيه الشاعر هذا المعنى يشوبه الإفراط في استخدام التشبيه. فالعشق لا يصبح معجزة، بل مجرد إعادة إنتاج لفكرة محورية دائمة في الشعر العربي، مما يقلل من جدتها في السياق. يقول الشاعر:“وكل قلبٍ يرى في العشق معجزةً”، وهو عبارة تحمل عاطفة جياشة، لكنها للأسف تتكرر بشكل يجعلها تفقد تأثيرها الفعلي. ما كان يمكن أن يكون لفتة حقيقية يُؤسس بها لنص استثنائي، أصبح جزءًا من سلسلة من الصور المألوفة التي لا تضيف جديدًا للمعنى.

في هذه الأبيات، نجد أن الشاعر أسرف في استخدام العواطف غير المترابطة، فتكتظ النصوص بالصورة الوردية للعشق، لكنها في النهاية تبتعد عن قلب الموضوع وتُجعل من العشق صورة تقليدية لا تقوى على التعبير عن خصوصية التجربة العاطفية. العشق الذي يُفترض أن يكون معجزة، يصبح مجرد تجربة حسية مكررة، تفتقر إلى اللحظة الجوهرية التي تحوِّلها إلى جزء من الإبداع الفعلي.

الصور الحسية والمبالغة في العاطفة: بين الترف والغرق

أما في البيت الثالث، نجد صورةً جديدة تُدثّر القصيدة بالعطر والجمال الحسي، لكنها في الوقت نفسه تغرق القارئ في بحر من المبالغة العاطفية. العطر، كما تتناثر المرايا، تخلق توازُنًا حالمًا بين الوجود والعدم. لكن في محاكاة الشعر، يبقى السؤال: هل يكفي العطر كدليل على الوجود؟ وهل يمكن للصور المجازية أن تغني عن المعنى الملموس؟ الجواب هنا، ربما، هو أن الشاعر يغرق في لذة التشبيه أكثر من إشراكنا في تجاربه الحية.

الشهوة في هذا السياق، والتي تتجسد في الغرق العاطفي، تتحول إلى حالة من الاضطراب داخل القصيدة، فكما ينسى العطر في المرايا، كذلك تتبدد الصورة بين المشهد الحسي والإحساس الغارق في الذات، الذي لا يترك للقارئ فرصة للاقتراب من المعنى بشكل حقيقي.

الختام: الحاجة إلى التوازن بين الشكل والمضمون

البيت الأخير، الذي يقدِّم لنا العاشقين بلا أسماء، يمر كما لو أنه منعطف حاسم يبيّن جوهر النص، أو على الأقل ما كان يمكن أن يكون جوهرًا له. إن العاشقين بلا أسماء يبرزون، في ظاهر الأمر، كأنهم تجسيدٌ للحب المطلق، ولكن هؤلاء العاشقين الذين يعطرون أشواقهم، يبقون في نهاية المطاف ضبابيين، مثل الصورة نفسها التي تكتظ بالتفاصيل ولكنها تفتقر إلى البنية المتماسكة التي تعطي معنى ثابتًا.

الخلاصة:

في النهاية، تظل هذه الأبيات رحلةً عاطفيةً ساحرةً وجميلةً، لكنها تفتقر إلى الاتساق الشعري الذي يجعلها تتفاعل مع القارئ بشكل أعمق. الشعر في هذا النص أصبح أداة للتجميل الظاهري على حساب التماسك البنائي، حيث تسهم الصور في خلق عالمٍ ملونٍ، لكنها تبتعد عن جعل هذا العالم يتناغم مع الهدف الأساسي للقصيدة. يتضح أن النص بحاجة إلى لمسة من التوازن بين الخيال المفرط والتجربة العاطفية الحقيقية التي تجعل من هذه الأبيات محاكاة للواقع لا هروبًا منه.