آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 1:45 م

في دروب الحوار: الكلمة حين تضل الطريق

عماد آل عبيدان

في محيط الحياة، يتنقل الناس بين دروبٍ لا حصر لها من التفكير والرؤى، وفي كل زاوية يلتقي الفكر مع الفكر، تتعدد الألوان وتختلف التصورات. لا شيء في هذا الكون يثبت على حاله، فكل فكرة تولد من رحم آخر، وكل وجهة نظر تتناغم مع نظيرتها. في هذه الرحابة يكمن معنى الحوار الحقيقي، الذي لا يقيدنا إلا فضيلة الاحترام. في هذا الاختلاف الصحي يولد الوعي، وفيه يتناغم البشر معًا على درب التحقق من الحقيقة، لا على مسرح للصراعات أو المقارنات السطحية.

لكن الكلمة، تلك التي تملك قدرة على بناء حضارة أو هدمها، قد تُضل الطريق، فيتحول النقاش إلى صراع، والفكرة إلى سلاح، والنية الطيبة إلى خديعة. تتحول الاختلافات الفكرية، وهي جوهر الحياة، إلى ساحات معركة لفظية، لا يتوقف فيها القتال إلا بغروب القيم الأخلاقية. فتبدأ اللغة تتعرى من رداء الاحترام، ويصير الآخر مجرد هدف مشروع لإطلاق الاتهامات، تُنسب إليه صفات بعيدة عن طبيعته، يُوصف بالنرجسية، أو العمالة، أو الاصطفاف، وتهوى الكلمات من على لسان صاحبها إلى المنحدر الوخيم من التخوين والمقاطعة.

إشاعات القلوب السامة تنتشر أسرع من كلماته، وتؤدي في النهاية إلى تصدعاتٍ عميقة، ليس في العلاقات فحسب، بل في جسد الوحدة الإنسانية نفسها. إذ لا يرتفع إلا الصوت الذي يخلو من التنوع، ولا يتنفس إلا الأفق الذي يرفض الاختلاف، ولا يتسع إلا المساحات التي تتشوه بالتهديدات. هذه ليست حرية رأي، ولا هي شجاعة في النقد، بل هي إفلاس فكري وأخلاقي، لا مبرر له سوى الإصرار على البقاء في الجدران الضيقة.

وفي هذا السياق، علينا أن نعي أن الاختلاف لا يُعد جريمة، وأن الرأي لا يُقاس بمقدار تطابقه مع رأيي الشخصي. أفكار البشر ليست وحدانية، وحين نختلف، نكون نحن أولى بحوارنا، أولى بالحفاظ على نقاشنا في مستوى راقٍ يليق بقدسية الكلمة واحترام العقل. فما فائدة منطقٍ يبني على تدمير الآخر؟ وما قيمة فكرٍ يتبنى لغة التخوين، ويصف الآخر بالطريق المظلم دون أن ينير له بصيرة؟

إن الحقيقة لا تأتي من الصراخ أو التهديد أو تخوين الآخرين، بل تأتي من التأمل العميق، والمناقشة الهادئة، والاعتراف بأننا جميعًا نسير على دربٍ واحد، وإن اختلفت وسائل الوصول.

ألا يعلم الجميع أن أعلى مراتب التميز لا تكون في التقليل من الآخرين، ولا في السعي لتشويه الأفكار؟ بل في أن تسعى الكلمة لتكون هداية لا فتنة، نورًا لا ظلامًا، في أن تسير الإنسانية عبر مسارات مشتركة لا تفرقة ولا تحقير فيها. أن الكلمة، التي تظن أنها تُحطم الجدار، هي نفسها التي تشيد عالمًا جديدًا إذا صدقت النية فيها، وإذا كانت بعيدة عن الحقد، قريبة من الرحمة، وفائقة الكمال إن كانت على قاعدة احترام الآخر.

أيها الساعون وراء الحقيقة، ما أسهل أن تسقط الكلمة في بحر التخوين، وتذوب في قاع الظلمات، ولكن ما أعظم أن ترفعها السماء حين تلامس القلوب النقية، فتغدو مع الزمن شهادة على تواضع الفكر، ورحابة العقل، وصدق اللسان.

وما دام الحوار يظل أرضًا خصبة للآراء المتنوعة، فلنزرع فيها بذور الاحترام، ونسمو بكلماتنا بعيدًا عن فخ التخوين، مستعينين على التفاعل بمصداقيةٍ رفيعةٍ مع ما نحمل من أفكار. فلا تخجل عقولنا من اختلافاتها، ولا تتراجع عن المحبة في أوج معارك الآراء، بل تبقى الكلمة الطيبة هي الفائز الأكبر، والموقف الأسمى.

إن الكلمة، في النهاية، سيدة المسافة بين العقل والروح، هي التي تهدم الجدران وتبني الجسور، وهي التي تجعلنا على الطريق الصحيح، بعيدًا عن مغريات السلبية والفكر المحدود.

فلتظل الكلمة في مكانتها السامية، ولتظل أفعالنا شاهدة على فكرنا الرفيع، بعيدًا عن سطوة الأهواء والمكائد. يستحق الحوار أن يكون أسمى من الكلمات الجارحة، ويستحق الفكر أن يرتقي بعيدًا عن الكيد والتحامل، لتبقى الحقيقة، دائمًا وأبدًا، هي السعي المستمر الذي لا نهاية له.