مُجتمعُنا في شهر رمضان المبارك
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [سورة البقرة: 185]
بمجرد أن نقرأ هذه الآية الكريمة أو نسمعها، تتغلغل السَّكينة والطَّمأنينة في قلوبنا، ونشعر بهيبة الشَّهر الفضيل، حيث يجد الجميع أنفسهم في ضيافة الله - سبحانه وتعالى -.
لكن، هل نحن بالفعل أهلٌ لهذه الضيافة الكريمة؟
شهر رمضان ليس مجرد صيام عن الطَّعام والشَّراب، بل هو فرصة عظيمة لتجديد القيم وتعزيز السلوكيات الأخلاقية. فهل ينعكس هذا الشهر على سلوكنا؟
هل نشهد تغييرًا حقيقيًا في تعاملاتنا اليومية، أم أن التأثير سرعان ما يتلاشى مع انقضاء الشهر؟
وهل تحمل أيَّام شهر رمضان قيمًا مختلفة عن باقي الشهور، أم أن التغيير مجرد مظاهر عابرة؟
لا شكَّ أنَّ المسلمين يشعرون بالفخر والاعتزاز بهذا الشهر الكريم، فهو ليس مجرد أيَّام تمضي، بل هو فرصة روحانية تعزز نشوة التقرب إلى الله - عزَّ وجلَّ -. وكذلك تتجلى في شهر رمضان مظاهر الإيمان، حيث يحرص الكثيرون على تلاوة القرآن الكريم، والإنصات إلى المحاضرات الدينية التي تبث في النُّفوس معاني الحكمة والخشوع، إلى جانب الأدعية التي تنساب إلى القلوب فتمنحها سكينة لا مثيل لها.
وما أجمل تلك المجالس التي تحتضن العائلات والأصدقاء في الأحياء والمنازل، حيث يجتمعون على تلاوة أجزاء القرآن الكريم، فتعلو أصوات التلاوة، وتتسابق القلوب في طلب الرحمة والمغفرة. ولو أدركنا عظيم الأجر الذي تُكتب فيه الحسنات، لتمنينا أن يكون شهر رمضان ممتدًا طوال العام، لا يقتصر على ثلاثين يومًا فقط.
في هذه الأيام المباركة، يعيش المؤمنون حالة من الصَّفاء النفسي، يتأملون في معاني الرحمة والمغفرة، وينتظرون بفارغ الصبر ليلة القدر؛ تلك الليلة التي تتنزل فيها البركات، وترتفع فيها الدَّعوات، ويغمر النور قلوب السَّاجدين والخاشعين. جعلنا الله - تعالى - جميعًا من القائمين في تلك الليلة العظيمة، ممن تنالهم نفحات الرحمة والمغفرة.
وقد ورد عن رسول الله محمَّد ﷺ في خطبته لاستقبال شهر رمضان، كما روى الإمام الصادق عن أبيه عن آبائه
أنَّه ﷺ قال: ”أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ“ «وسائل الشيعة: 10 /313».
وكذلك، كان الإمام زين العابدين يوصي باستقبال شهر رمضان بخشوع وانكسار، فقد ورد عنه في دعائه
عند دخول الشهر: ”الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ، وَ جَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ لِنَكُونَ لِإِحْسَانِهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَ لِيَجْزِيَنَا عَلَى ذَلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ“ «الصحيفة السجادية ”أبطحي“: ج 1، ص 209»، وهو ما يعكس مدى أهمية استقبال شهر رمضان بقلوب متهيئة للعبادة والتقرب إلى الله - تبارك وتعالى -.
ولكن، هل جربتم شعور الليلة الأخيرة من شهر رمضان؟
تلك الليلة التي تسكنها الوحشة، حيث نشعر أن ضيفًا عزيزًا قد حزم أمتعته ورحل، فنجد الناس وقد تغيرت ملامحهم، فبين من يودع الشهر بحزن وتأمل، وبين من يبتهج لقدوم العيد، وكأن القلوب تتأرجح بين فرحة اللقاء وحسرة الفراق.
فيا أيها المتخاصمون، أيها القاطعون لأرحامكم، أيها المتباعدون بفعل كلمات قاسية أو مواقف عابرة، ها هو شهر رمضان بين أيدينا، فاجعلوه فرصةً للمغفرة، لا فقط من الله - سبحانه -، بل من بعضكم لبعض.
إنَّ كان شهر رمضان هو شهر الرحمة، فهل نكون نحن في معزل عن هذه الرحمة؟ إن كان شهر رمضان هو شهر العتق من النار، فكيف لا نحرر قلوبنا من قيود الأحقاد والخصومات؟
مدوا أيديكم بالصلح، تصافحوا بقلوبٍ نقية، اجعلوا هذا الشهر وسيلةً لإعادة دفء العلاقات التي بردتها الأيام؛ فما أجمل أن نجعل من أيَّام شهر رمضان بداية جديدة لحياة يسودها الحب والتسامح، لا أن يظل العفو والتصالح مجرد شعور مؤقت يزول بانقضاء الشهر.
وهكذا يمضي شهر رمضان سريعًا، وكأنه ضيف كريم جاء ليوقظ فينا القيم النبيلة، ويعيد إلى أرواحنا صفاءها، وإلى قلوبنا دفءَ الإيمان.
أيام معدودات لكنها تحمل بين طياتها دروسًا عظيمة، تعلمنا الصبر، وتحثنا على العطاء، وتدعونا إلى التصالح مع أنفسنا ومع من حولنا.
فليكن أثر شهر رمضان ممتدًا في حياتنا، لا مجرد لحظات من الخشوع والعبادة تنقضي بانقضائه. ولنجعل من روح هذا الشهر زادًا نستعين به طوال العام، فلا يكون الصيام مجرد امتناع عن الطعام، بل مدرسة نتعلم منها ضبط النفس، ولا تكون الصدقة عادةً موسمية، بل أسلوب حياة، ولا يكون العفو مؤقتًا، بل نهجًا دائمًا يعكس جوهر الإيمان.
وبينما نستعد لتوديع شهر رمضان واستقبال العيد، لنتذكر أن الفرحة الحقيقية لا تكتمل إلَّا بقلوبٍ صافية، متحابة، متسامحة؛ فكما بدأنا هذا الشهر بصفحات بيضاء، فلنختمه بقلوب نقية، تنبض بالمغفرة، وتحمل في داخلها الأمل بأن نكون قد فزنا برحمة الله - تعالى -، ونلنا من بركات هذا الشهر الكريم ما يجعل حياتنا أكثر إشراقًا وسكينة.
نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا من المقبولين، وأن يعيد علينا شهر رمضان أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، ونحن في حالٍ أفضل، وإيمانٍ أكمل، وقلوبٍ أنقى.