آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 4:46 م

القيادة الإدارية المفقودة

أن تكون مديرًا لمنظمة أو لفريق عمل، فهذا أمرُ شائعُ بين الكثيرين، وذلك لأن العديد من الأنشطة أو المؤسسات أو الشركات تحتاج إلى أشخاص يشغلون مناصب إدارية لتنظيم العمل واتخاذ القرارات، ولكن أن تكون قائدًا محوريًا ناجحًا يلتفُ حولك الآخرون، ويعملون إلى جانبك طوعا وعن قناعة وطيب خاطر أيا كان نشاطهم أو مهنتهم، فهذا أمر يتطلب قُدرات ومهارات استثنائية تتجاوز حدود السلطة الرسمية أو التعليمات المباشرة، وذلك لأن القيادة ليست مجرد منصب أو لقب، بل هي فن التأثير في الآخرين وتحفيزهم على الإبداع والتفاني بإرادتهم الحرة، مما يخلق بيئة عمل ديناميكية تُشجع على التطور المستمر والإنجاز الفعال.

وبما أن حديثنا ينصب حول مشكلة غياب القادة أو انعدام الكفاءات القيادية في قطاع الأعمال، فإن هذه المشكلة تُعد من التحديات الجوهرية التي تواجه المؤسسات اليوم، إذ إنّ غياب القيادة الفعالة يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية، وغياب الرؤية الاستراتيجية، وتدهور مستوى التحفيز لدى العاملين؛ مما يُعرقل تحقيق الأهداف المرجوة أو الأهداف المنشودة.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا هو:

ما هو معنى القيادة، والقيادة المفقودة؟ ولماذا يمكن أن يكون كل قائد مدير، وليس كل مدير قائد؟ ولماذا يُعتبر المديرون أكثر انتشارًا وتواجداً في الشركات والمؤسسات والمصانع أو حتى في المدرسة من القادة؟! وما هو الفرق بين القادة والمدراء؟ وكيف يمكننا تحويل المدراء إلى قادة للمستقبل؟

القيادة الإدارية والقيادة المفقودة

كلمة قيادة مشتقة من الفعل ”يبدأ أو يقود أو يحكم“ وهي كلمة كانت تنطوي على علاقة اعتمادية متبادلة بين من يبدأ بالفعل وبين من ينجزه... وأن هذه العلاقة يترتب عليها تمثيل دورين متباينين. يمثل الدور الأول: من يتولى القيام بالعمل وهو القائد ووظيفته إعطاء الأوامر، ويمثل الدور الثاني: من ينجزون العمل وهم الأتباع ووظيفتهم تنفيذ الأوامر.

وكلمة قائد: تعني الشخص الذي يوجه أو يرشد أو يهدي الآخرين. أي القيادة بهذا المفهوم تعني عملية رشيدة طرفاها شخص يوجه ويرشد، والآخر أشخاص يتلقون هذا التوجيه والإرشاد الذي يستهدف تحقيق أغراض معينة.

فهي تعني كما عرّفها أوردوي تيد ”النشاط الذي يمارسه شخص للتأثير في الناس، وجعلهم يتعاونون لتحقيق هدف يرغبون في تحقيقه“.

وعرفها آخرون " بأنها ممارسة التأثير من قبل فرد على فرد آخر لتحقيق أهداف معينة.

بينما الدراسات الإدارية عرّفت القيادة المفقودة أو انعدام الكفاءات القيادية بأنها: ضعف أو غياب الصفات أو السمات القيادية الفعالة مثل الرؤية الاستراتيجية، والقدرة على التحفيز، ومهارات التواصل، والذكاء العاطفي، واتخاذ القرارات الصائبة.

فالقائد في الإدارة المفقودة قد يكون موجوداً اسميًا، لكنه غائب فعليًا أو حاضرا جسديًا، لكنه غير مؤثر، أو يمارس دوره بأسلوب سلبي يعيق التقدم بدلا من توجيهه، فعلى سبيل المثال قد نرى مديرًا عامًا لشركة ما أو لمنظمة ما حاضرا في الاجتماعات، لكنه لا يقدم أي توجيهات واضحة للموظفين، ولا يتابع تنفيذ القرارات، ولا يسعى لحل المشكلات اليومية، أو قد نرى مشرفًا ميدانيا ً يُشرف على الأفراد لكنه لا يمتلك أي سلطة حقيقية لاتخاذ أي قرار يمكن أن يحسن من بيئة العمل؛ لأن كل القرارات تُتخذ في الإدارة العليا التي لا تستمع إليه، وبالتالي قد تتحول المنظمة أو المؤسسة إلى كيان هش يعاني من التخبط والفشل التنظيمي.

ليس كل مدير قائد ولكن كل قائد مدير

مقولة طالما ترددت في الأوساط الإدارية وبيئات العمل حيث تستخدم للتأكيد على الفرق بين الإدارة التقليدية والقيادة الفاعلة ومدى تأثير كل منهما على نجاح الأفراد والمؤسسات.

صحيح أن المدير هو الشخص الذي يشغل منصبًا إداريًا رسميًا، ويعمل وفق الأنظمة واللوائح، ويمارس سلطته من خلال القوانين والسياسات التنظيمية، ويهتم بالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، ولكنه ليس كالقائد الذي يمتلك المهارات القيادية التي تمكنه من تحفيز فريقه وتحقيق النجاح بأسلوب مؤثر.

وصحيح أيضا أنه يمكن لأي شخص أن يكون مديرًا بحكم منصبه، ولكن ليس كل مدير يمتلك صفات القائد القادر على التأثير والتحفيز. فهناك من يملكون السلطة، لكنهم يفتقرون للقدرة، وهناك من يتمتعون بالمهارات القيادية والتأثير الفعلي، ولكنهم لا يحملون منصبًا رسميًا، ولذلك فالقوة الحقيقية لا تأتي من اللقب وإنما من القدرة على الإلهام والتأثير وصناعة التغيير.

إنني أرى أنه ليس من الصح في كثير من الأحيان النظر إلى ”المدير الأكبر سنًا أو الأقدم تجربة هو الأقدر والأفهم“ بناءً على ما يمتلكه من خبرات متراكمة وتجارب حياتية ومهنية.

وذلك لأن القيادة لا تعتمد على السن أو الأقدمية أو الأسبقية وفقط بقدر ما تعتمد على الكفاءة والوعي والإدراك والقدرة على التأثير والتكيف مع المتغيرات الحديثة، فكم هناك من مدراء أكبر سنًا، لكنهم غير قادرين على قيادة الفريق؛ بسبب جمود أفكارهم وتشبثهم بالأساليب التقليدية وعدم مواكبتهم للتطورات الحديثة، وكم من مدراء أصغر سنًا، لكنهم أكثر مرونة وديناميكية وابتكارًا ولديهم مهارات قيادية تمكنهم من التأثير على الآخرين بشكل إيجابي وفعّال.

ندرة القادة وكثرة المدراء

المثير للدهشة أن الجميع يدّعي معرفة القيادة، ومعناها، ومحتواها، واستخدامها وتوافرها فيه، لكن في الوقت نفسه يؤكد الجميع على أنها نادرة وليست شائعة، وهذا التناقض يطرح تساؤلًا حقيقيًا وهو: إذا كان الجميع يعتقدون أنهم يمتلكون مهارات القيادة فلماذا تعاني الكيانات أو المؤسسات الرسمية أو الخاصة في قطاع الأعمال الربحي أو غير الربحي من ندرة القادة وكثرة المدراء؟!

لعل المشكلة الأساسية تكمن في أن الفرق بين القيادة والإدارة غير واضح لدى الكثيرين من أصحاب المصلحة، ولذلك نرى العديد منهم يخلطون بين الوظيفة الإدارية التي تعتمد على التخطيط والتنظيم والرقابة، وبين القيادة التي تركز على التأثير والتحفيز وصنع الرؤية المستقبلية، فبينما يقتصر دور المدير على متابعة المهام وضبط العمليات وفق اللوائح والأنظمة، فإن دور القائد يتجاوز ذلك إلى إلهام الآخرين وتحفيزهم ودفعهم نحو تحقيق الأهداف بأساليب إبداعية وإستراتيجية.

كما أن المنظومات التقليدية «الأنظمة أو الهياكل التي تعمل وفق نماذج إدارية أو تنظيمية روتينية ومحدودة» كالإدارة التي تُركز على التسلسل الهرمي الصارم، وعلى الطريقة البيروقراطية، والاعتماد على القواعد الجامدة، والتقييم المبني على الامتثال للأنظمة والنتائج قصيرة المدى، وليس على التفكير النقدي والإبداعي المرن، مما يؤدي في الغالب إلى تعيين مديرين يشغلون مناصب قيادية، دون أن يكون لديهم رؤية واضحة أو قدرة على تطوير فرق العمل وتحفيزهم، وبالتالي فإن ضعف فهم الفرق بين القيادة والإدارة قد يؤدي إلى ندرة القادة مقابل كثرة المديرين الذين يديرون المهام بدلا من إلهام الموظفين وتحقيق التغيير الفعلي.

الفرق بين القائد والمدير

أولًا: المدير يخلق الخوف والرهبة في نفوس مرؤوسيه لانعدام ثقته فيهم ولذا فالعاملون معه في خوف دائم منه خشية التعرض للمحاسبة على أقل تقصير أو أدنى هفوة غير مقصودة، بينما القائد فيعتمد في فكره، وفي منطقة على مبدأ الثقة والمصداقية، ويسعى سعيا حثيثًا لغرس وتطوير هذه الثقة في نفوسهم ويشجعهم دوما على المبادرة بتقديم الأفكار الإبداعية.

ثانيًا: توجيهات وقرارات المدير أو الرئيس غالبا ما تثير الامتعاض والاستياء في نفوس عامليه؛ لأن قراراته وأفكاره أحادية النزعة حيث لا دور لمرؤوسيه في صناعة أو المشاركة بتلك القرارات أو الأفكار بينما القائد، الأفكار والآراء والمبادرات والقرارات نابعة من المشاركة والمشورة.

ثالثًا: المدير أو الرئيس يركز على ال ”أنا“ المتحورة حول ذاته، فيرى أن الأمور كلها يجب أن تبدأ وتنتهي عنده، وفي نفس الوقت ينسب الأخطاء لغيره، بينما القائد فيعمل على تنمية وتطوير العمل الجماعي مستندًا على مفهوم أن الإدارة هي تنظيم نشاط بشري جماعي هادف، لذا فهو ينسب النجاح لجميع أفراد فريق العمل وليس لنفسه.

رابعا: وأخيرًا يشعر المدير أو الرئيس بأن القرار الرسمي الصادر من الإدارة العليا بتعيينه يخوله لأن يصبح قيّما، ومراقبًا، ووسيطًا بين الإدارة العليا والموظفين، ويبدأ بإظهار هذا التوجه لمرؤوسيه جهارًا نهارًا مما يُعمق الفجوة بينه وبين مرؤوسيه، وسرعان ما تبدأ بذور الكراهية والشك تنمو تجاهه من قبل مرؤوسيه، بينما القائد وحتى لو كان تعيينه في منصبه بقرار من الإدارة العليا، فإن شعوره وعواطفه يتماثل مع شعور وعواطف العاملين معه؛ لأنهم هم من يقومون بتنفيذ الأعمال وهو من يقف صامدًا ومدافعًا عن مطالبهم؛ وبذلك تتجذر أواصر الحب والألفة بينه وبين مرؤوسيه.

ومن الضرورة هنا الإشارة إلى الفرق بين المدير الفاعل الذي يقود المنظمة بكفاءة، ويحقق التوازن بين أهدافها وتطوير الأفراد، وبين المدير الغير فاعل الذي يُعتبر عائقًا أمام نمو المنظمة، ويؤثر سلبا على الإنتاجية والثقافة المؤسسية؛ بسبب ضعف مهاراته الإدارية.

ولذلك، كما أن هناك مؤسسات أو منظمات بحاجة إلى قادة حقيقيين فإن هناك أيضًا حاجة وضرورة إلى إداريين فاعلين.

تحويل المدراء إلى قادة في المستقبل

إنني أكاد أجزم بأن المديرين الحقيقيين لا يُصنعون بالمناصب أو بالسلطة وفقط، وإنما بالكفاءة والنتائج وبالعدل في التعامل، وأن القائد الحقيقي لا يُقاس بلقبه أو بصلاحياته وإنما بقدرته على التأثير وإلهام فريقه في تحقيق الأهداف بفاعلية، ومع ذلك، من اللافت أن نرى بعض الألقاب تُمنح دون أن تُستند إلى معايير واضحة للكفاءة، بينما يُحرم منها آخرون رغم امتلاكهم للخبرات والقدرات التي تؤهلهم بسبب غياب التقييم العادل أو تغلّيب المصالح الشخصية، ولذلك كما أرى أن التحول من مدير إلى قائد يتطلب المرور بثلاث مراحل أساسية وهي:

1- المعرفة: فلا قيادة بدون أساس معرفي متين وقوي، فالمدير الذي يسعى ليصبح قائدًا يحتاج إلى فهم عميق لمبادئ القيادة مثل الذكاء العاطفي، والتفكير الاستراتيجي، وإدارة التغيير و.. مما يُمكنه من توجيه فريقه بوعي وكفاءة.

2- المهارة: إن امتلاك المعرفة وحدها لا تكفي وإنما يجب أن تتحول إلى مهارات عملية مثل التفكير النقدي واتخاذ القرار وحل المشكلات والتواصل الفعال و... مما يساعد القائد على إدارة الأفراد والموارد بمرونة وكفاءة

3- الممارسة: فالقيادة لا تُكتسب فقط من خلال التعلم النظري وإنما تُصقل بالتجربة والتفاعل مع الواقع، ولا يصبح المدير قائدًا إلا عندما يواجه التحديات بنفسه، ويتعلم من النجاحات والإخفاقات.

وأخيرًا: إن غياب القيادة الإدارية الفعالة قد يترك فراغًا يؤثر على الأداء والاستقرار المؤسسي، ويؤدي إلى تراجع في الإنتاجية وضعف في التوجيه، وإن الحل يكمن في الاستثمار في تطوير القيادات القادرة على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الحكيمة