آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:28 م

العجل الذهبي.. حين يُصاغُ الفكرُ من وَهْمٍ ويُعبَدُ الوهمُ ذَاتُه

عماد آل عبيدان

مدخل إلى قصة العجل: زمنٌ يختصر كل الأزمنة

في سفر الزمن المقدّس، حين كانت الرسالات تبني للبشرية أوّل أبجديات النجاة، وفي لحظة مفصلية فارقة من التاريخ الإلهي الممتد، ولدت واقعة العجل في زمن النبي موسى ، ليس كحدث عابر في كتاب الله، بل كنص مفتوح أزلي، يُعاد تمثيله على خشبة كل عصرٍ وكل قلب.

إنها ليست قصة ذهبٍ مُذابٍ يُجبل على هيئة عجلٍ ليخور، بل هي قصة الإنسان حين يتورط في عبادة أدواته، حين يؤله انعكاسات ضعفه وخوفه، وحين يهرب من نور الوحي إلى ظلام الهواجس.

المباني الفكرية والإنسانية المستخرجة من قصة العجل

1- العجل.. الخرافة حين تُؤسس نظرية

في أصل الحكاية، يقف السّامري، شخصية مركبة لا يذكرها القرآن عبثًا، رجلٌ لم يصنع عجلاً من ذهبٍ فحسب، بل صنع إطارًا نفسيًا وفلسفيًا مهّد للعجل أن يكون معبودًا. فالفكر الإنساني حين يعجز عن مواجهة الإله الحق، يخترع إلهاً يُناسب ضعفه. هكذا وُلِد العجل: حل نفسي قبل أن يكون وثنًا ماديًا.

﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ «طه 88»

إنه التأليه القسري لما يمكن رؤيته ولمسه، نزعة الإنسان البدائية حين يعجز عن الوثوق بغيبيات الوحي، فيهرب نحو المحسوس المزيّف. هذه الفكرة لم تندثر، بل بقيت قانونًا فكريًا يُطبق بصور مختلفة، من عبادة الأصنام إلى عبادة الأيديولوجيات الهشة، ومن تقديس الأشخاص إلى تقديس الأفكار المعلّبة.

2- الخوار: الصوت الذي يغتال الفكر

ليس عبثًا أن يُقال عن العجل:“له خُوار”. الصوت كان جزءًا من التأثير النفسي. الإنسان لا يبحث عن الإله الذي يُنقذه فقط، بل عن الإله الذي يملأ الفراغ السمعي والبصري في داخله. العجل تكلم بلسان الفتنة، وأطلق خطابًا يناسب النفوس المرتجفة، لأن الصوت حين ينخفض العقل يرتفع تأثيره.

3- الصوت البديل: كيف تصنع الجموع أصنامها

العجل الذهبي في جوهره، هو أول مدرسة في التاريخ لصناعة البدائل الفكرية عن الدين الحق. كل فكرة لاحقة لتمييع الدين أو تسطيحه أو استبداله بأيقونات بشرية أو مادية، هي وليدة مدرسة العجل. صوت العجل لم يخفت عبر الزمن، بل تغيّر صوته فقط، من خوارٍ إلى ضجيج إعلامي أو فلسفي أو سياسي.

الأثر النفسي والاجتماعي لقصة العجل

1- الهروب من التوحيد إلى الوهم

الإنسان بطبعه ضعيف أمام الحقائق المطلقة. التوحيد مسؤولية، والنبوة تكليفٌ ثقيلٌ على القلوب. فكان العجل مخرجًا نفسيًا جماعيًا من وطأة النبوة إلى راحة الخرافة.

قال أمير المؤمنين :

“أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ.”«نهج البلاغة، خ 50»

العجل في جوهره فتنة مُمنهجة، مدرسة ابتداعية تؤسس لاستبدال الوحي بالأهواء، وهذا قانون في كل زمان.

2- صناعة القطيع: النموذج الاجتماعي

العجل الذهبي أول نموذج في التاريخ لـ تأثير القطيع. القلة التي صنعت العجل استطاعت قيادة الأكثرية لا لأن الفكرة متينة، بل لأن الخوف والحاجة إلى الطمأنينة النفسية جعلتهم أتباعًا مخلصين لأي شيء.

قال الصادق :

“مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ عَنْ اللَّهِ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُنْطِقُ عَنْ لِسَانِ إِبْلِيسَ فَقَدْ عَبَدَ إِبْلِيسَ.”«الكافي، ج 6، ص 434»

العبر المستمرة عبر التاريخ

1- كل عصر له عجله

لا ينقضي زمن إلا وعجله حاضر بصور متعددة:

• عجل المال

• عجل السياسة

• عجل الإعلام

• عجل الدجل الروحي

كلها أصنامٌ حديثة ذات خوارٍ مُعاصر، تُصنع من نفس الذهنيات: حاجة الإنسان لشيء قريب، سهل العبادة، يُبرر الانحراف ولا يوجع الضمير.

2- السّامريون الجدد

في كل زمان، هناك سَمَريٌّ خفيٌّ، يملك أدوات الإعلام، ويوظّف المعرفة النفسية والاجتماعية، ليُعيد إنتاج العجل بمواصفات العصر.

قال الباقر :

“مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا وَفِي أُمَّتِهِ سَمَرِيٌّ يُضِلُّ النَّاسَ بَعْدَهُ.”«تفسير القمي، ج 2، ص 75»

المنهج المستخرج: كيف نحمي الأمة من عجولها؟

• الوعي النقدي: لا تقبل صوتًا قبل أن تعرف مصدره.

• تحرير القلب من الخوف: لأن الخائف عبدٌ لأوّل من يُطمئنه.

• الارتباط الحقيقي بالوحي وأوليائه: لأن من ترك موسى تتلقفه السامريات.

نبضة ختام.. لمن يستفيد اليوم؟

الفئات المستفيدة من مدرسة العجل إلى اليوم:

• تجار الأديان السياسية.

• المزورون الفكريون.

• الطغاة الذين يُقدّسون لأنفسهم.

• أصحاب المشاريع التجارية المغلفة بروحانية زائفة.

قال أمير المؤمنين :

“إِنَّمَا الدُّنْيَا عَجْلٌ وَنَحْنُ أَبْنَاءُ الْآخِرَةِ.”«نهج البلاغة، خ 193»

العجل لم يمت.. بل بدّل جلده وصوته، والعبرة لمن اتّعظ.