آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 1:45 م

حين يتجلّى النظم الإلهي بين النار والماء: قراءة فلسفية في مصير إبراهيم وموسى عليهما السلام

عماد آل عبيدان

حين أنزل الله القصص في قرآنه، لم ينزلها كي يسكب في وجدان الإنسان قصصًا مسلية تسري عنه في فراغ لياليه، ولم يجعلها حكاياتٍ عابرة كألف ليلة وليلة أو أخبار الماضين التي يُراد بها مجرد التوثيق التاريخي. بل أرادها مائدةً للعقول والأرواح، كلما نهل منها عقلٌ رشيد، اتسعت دائرة إدراكه للحق، وكلما ارتوت منها روحٌ خاشعة، تهذبت مقاماتها بين الفناء والبقاء.

وفي قصة إبراهيم، وفي قصة موسى، يتراءى أمام العقول المتدبرة معنى بالغ العمق: إرادة الله التي تُجري النظم في الكون، ثم تخرقه متى شاء، دون أن يفقد الكون توازنه، ولا أن يختل قانون واحد من قوانين النَسَق المحكم الذي قال فيه سبحانه: وكل في فلك يسبحون «يس: 40».

إبراهيم: النارُ بردًا وسلامًا

حين أُلقي إبراهيم في النار، كانت تلك لحظة فارقة في تاريخ التوحيد البشري، حيث تقف المادة في قمة جبروتها، في مواجهة العبد العارف بربه في قمة تسليمه. النار لم تكن مجرد ألسنة لهب، بل نارٌ أُجِّجت أربعين يومًا، حتى إن الطير كان يسقط ميتًا من شدة حرّها قبل أن يصلها «تفسير القمي، 2/122». وحين جاءه جبريل في أتون اللهب يسأله:“ألك حاجة؟”قال:“أما إليك فلا، وأما إلى الله فحسبه علمه بحالي عن سؤالي”«تفسير العياشي، 1/305».

فجاء الأمر الإلهي الذي أخرق النظم الكوني في لحظة:

قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم «الأنبياء: 69». فالنار التي جُعلت للإحراق، تحولت إلى حضنٍ رحيم، برد وسلام معًا، لأن البرد وحده عذاب، والسلام وحده أمن، فإذا اجتمعا صار لطفًا إلهيًا مطلقًا.

موسى: اليباس في قلب البحر

وعلى الضفة الأخرى، يقف موسى ، عبدٌ آخر واجه الجبروت البشري في أعتى صوره مع فرعون، ليشهد خرقًا مهيبًا آخر للنظم الكوني، لكن هذه المرة في عنصرٍ نقيض للنار: الماء.

حين أدركه فرعون وجنوده، والماء أمامه عائقٌ حاسم، جاءه الأمر الإلهي:

اضرب بعصاك البحر «الشعراء: 63»، فضربه، فانفلق البحر اثني عشر طريقًا، وصار كل فرق كالطود العظيم «تفسير العياشي، 2/142».

لم يتوقف الماء عن كونه ماءً، لكن الإرادة الإلهية أظهرت فيه سرًّا خفيًا، أن الماء يعرف خالقه، وينصاع للأمر الإلهي بلا مقاومة. قال الإمام الصادق في تفسير ذلك:“فجعل البحر يبسًا بعصا موسى، وجعل جفافه بكلام الله، حتى صار طريقًا لمرور بني إسرائيل”«البرهان في تفسير القرآن، 2/377».

النظم والخرق: فلسفة الإيمان بين النار والماء

بين نارٍ باردة، وبحرٍ يابس، تتجلى فلسفة الإيمان الحق. الله لا تحكمه السنن، بل هو خالق السنن ومقننها، يجريها ويمضيها لحكمة، ويخرقها لحكمة. قال الإمام علي :“إن السنن جارية بأمره، والخرق لها بأمره، ومن ظن أن الله أسير سننه فقد جهل ربوبيته”«نهج البلاغة، الخطبة 185».

الإيمان بالله ليس إيمانًا بمجرى الأسباب وحدها، بل إيمانٌ بمن وراء الأسباب، ومن بيده مفاتيحها.

الأنبياء ومقام التسليم المطلق

الأنبياء في هذا المقام هم سادة العارفين، لم يطالبوا بمعجزات لأنفسهم، ولم يجزعوا عند البلاء. إبراهيم في النار، وموسى بين البحر والعدو، كلاهما يعلم أن الله أقرب إليه من شراك نعله. وفي الحديث الشريف عن الإمام علي :“حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا له: إن الناس قد جمعوا لكم”«الكافي، 2/445».

الأنبياء وسر المعرفة اللدنية

الأنبياء لم يعرفوا الله من الكتب وحدها، بل عرفوه بمعرفةٍ لدنية منحها الله لأوليائه وأصفيائه. قال تعالى: وعلمناه من لدنا علمًا «الكهف: 65»، وهذا العلم هو إدراك أن السنن مرآة القدرة، وأن المعجزات ليست خروجًا عن النظام، بل كشفًا لوجهه الآخر. قال الإمام الصادق :“الولي والعارف يرى بواطن الأشياء كما يرى ظواهرها، لأن الله كشف له أن وراء كل سبب مسببًا، وأنه سبحانه الفاعل في كل شيء”«الكافي، 1/157».

تطبيق المفاهيم في الواقع المعاصر

في زمانٍ يهرول فيه الإنسان وراء أسبابٍ ظاهرية، يقدّس فيها قوانين المادة حتى ظن أنها تحكم الوجود وحدها، يأتي هذا التدبر في قصص الأنبياء ليعيد تشكيل العقلية الإيمانية المتوازنة.

إن معركة الإنسان اليوم ليست مع العلم، فالعلم منحة إلهية، ولكن معركة الإنسان مع“السببية المطلقة”، حين يؤمن أن كل شيء مفسّر ماديًا، وأن ما لم تفسّره المعامل والمختبرات فهو وهمٌ وخرافة.

تأتي قصة إبراهيم وموسى لتضع الإنسان أمام مرآةٍ فكرية جديدة:

• السنن الكونية ليست مقدسة، بل خاضعة لمشيئة الله.

• الإرادة الإلهية يمكن أن تجري خوارق العادات متى شاءت، دون أن يختل البناء الكوني.

على الإنسان الحديث أن يتحرر من“عبودية التفسير الواحد”، فليس كل ظاهرةٍ تُقاس بمعايير المادة وحدها، وما خفي عن العلم ليس خرافة، بل غيب محفوظ إلى حين.

وفي زمنٍ أصبحت فيه العقول حبيسة التصورات المادية، تحتاج الأمة إلى تجديد الإيمان بفلسفة النظم والخرق، وأن خالق الأسباب هو المتصرف فيها، وأن السنن في يده كما كانت في يد إبراهيم وموسى، فإن شاء أجرى وإن شاء خرق، وحينها لن يكون الإيمان عبادةً شعائرية فقط، بل وعيًا عميقًا بحقيقة الوجود.

ومضة أخيرة: العودة إلى مائدة الأنبياء

في مائدة الأنبياء وحدها، يلتقي العقل والروح، ويتحقق التوازن بين السنن والمعجزات، بين الأسباب والمسبب، وبين ظاهر العلم وباطن اليقين.

فيا أيها العقل، عُد إلى مائدة الأنبياء، ففيها سرّ الحق الأول، وفيها نور البصيرة لمن أراد أن يخرج من ضيق المادية إلى سعة المعرفة بالله.