آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

شهر رمضان.. فلسفة التغيير وصناعة الإنسان الجديد

عماد آل عبيدان

وقفة على محاضرة الأستاذ الخطيب / سعيد العبيدان في الليلة الثالثة من شهر رمضان 1446 هـ

في حضرة هذا الشهر المبارك، يُفتح للإنسان بابٌ من الأمل، وتتحول النفوس إلى مسرحٍ لتجارب التغيير والتحوّل. إن شهر رمضان ليس مجرد تقويمٍ زمني أو طقسٍ جُلديّ، بل هو رحلة عميقة إلى داخل الذات، حيث يتلاقى الوجدان مع العقل، والروح مع القلب، لتكتب قصةً غير مسبوقة في سجلّ الحياة الإنسانية.

1. الإنسان بين الجبر والاختيار: جدلية الخلق وإرادة التجديد

منذ أزل الوجود، انقسمت آراء العلماء والفلاسفة حول سؤال: هل يمكن للإنسان أن يغيّر طباعه وسلوكه؟

يرى بعضهم أن الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها ثابتة لا تقبل التبديل، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى:

﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: آية 30]

وروايات تقول:“الشقي شقيٌّ في بطن أمه، والسعيد سعيدٌ في بطن أمه”.

ولكن هل يكون الإنسان أسيرًا لطبعه كما يُسير الماء نحو الهاوية؟ إن القرآن يضعنا في ميزانٍ آخر، فيأمرنا بأن نكون شركاء في تغيير مصائرنا بقوله تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: آية 11]

وهكذا، يُظهِر الكتاب الكريم أن الإنسان قادرٌ على التبدّل والتجدد؛ فهو معروضٌ أمام خيارين: أن يُزكي نفسه أو يُدسّها، كما في قوله:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: آية 7- 8]

2. شهر رمضان: مختبر التحول الداخلي

شهر رمضان هو أكثر من مجرد امتناع عن المفطرات؛ إنه موسمٌ لإعادة ترتيب الذوات وبناء الإنسان الجديد. ففي هذا الشهر المبارك تتبدد الأوهام ويُضَيَّء بصيرتنا، فنرى أن التغيير لا يبدأ من الخارج فحسب، بل ينطلق من داخلنا، حيث تتلاقى النوايا مع الأفعال:

• الصيام كرياضة للنفس:

يتجاوز الصيام كونه امتناعًا عن الطعام والشراب، ليصبح مدرسةً لضبط النفس، حيث يتعلم الإنسان كيف يُقاوم شهواته ويتحدى نفسه في معركة روحية داخلية.

• العبادات والذكر:

حين تُغمر القلوب بآيات الذكر والدعاء، يُجدّد الإنسان عهده مع الله، فيرتب أوراق قلبه من الفوضى إلى نظامٍ يحكمه الإيمان.

• العطاء والإحسان:

وفي جو الألفة والتراحم، تصبح النفوس مُلهمة للتواصل الاجتماعي والإحسان، فالصدق والعطاء ليسا طقسًا موسميًا، بل منهج حياة يُرسي أسس التغيير الدائم.

3. شواهد التغيير: دروسٌ من التاريخ والسيرة

لا يخلو تاريخ البشرية من قصص التغيير التي تثبت أن التحوّل الحقيقي ممكن. ففي سطور التاريخ نجد:

• قوم يونس:

الذين كانت نفوسهم على شفير الهلاك بسبب عصيانهم، إلا أن التوبة القلبية جعلت الله يكشف عنهم عذاب الخزي ويمنحهم حياةً جديدة. كانت لحظة توبة قوم يونس درسًا بليغًا في قدرة الإنسان على التغيير.

• الحر بن يزيد الرياحي:

الذي انقلبت فيه موازين الولاء؛ من قائدٍ معادٍ لمنار الحق إلى من تحول بطريقته إلى سليلٍ من أنصار الحسين ، مجسّدًا أن اللحظة التي يصادق فيها الوجدان قادرةٌ على تحويل القدر.

• هجرة الأنبياء:

إن بعثة الأنبياء لم تكن عبثًا، بل كانت رسالةً بأن التغيير مسارٌ محتوم لمن يريد أن يقترب من الله، فهجرة الأنبياء من مواطنهم إلى الله تعكس جُهد الإنسان في ترك ما هو دني ومؤقت من أجل الوصول إلى الحياة الأبدية.

4. أبعاد التغيير الرمضاني: ثلاثية الوعي والإرادة والاستمرارية

يتجلّى التغيير الحقيقي في رمضان عبر أبعاد متكاملة تُثري الروح والعقل:

• البعد الأول: الوعي الذاتي

يبدأ التغيير بالاعتراف بالحالة الراهنة للنفس؛ فكلما عرف الإنسان نقاط ضعفه، زادت قدرته على إصلاحها. الوعي هو البوصلة التي توجهنا نحو السبل الصحيحة، مستمدين منه آيات القرآن التي تحث على التأمل والتفكر.

• البعد الثاني: الإرادة الثابتة

الإرادة ليست شعورًا عابرًا، بل قوةٌ متجددة تدفع الإنسان لمقاومة الملذات الزائلة والتشبث بالقيم الروحية والأخلاقية. في رمضان، تُختبر الإرادة بالصبر عن الملهيات والارتقاء بالروح نحو معالي الإيمان.

• البعد الثالث: الاستمرارية في التطبيق

التغيير لا يكتمل بلحظةٍ واحدة، بل هو مسيرة مستمرة تتطلب العمل الجاد والمواظبة على العبادات والأخلاق. فكما يقول أهل الحكمة:“التغيير الحقيقي هو ذاك الذي يبقى أثره بعد زوال اللحظة.”

5. التغيير كرحلة نورانية: من الألم إلى النور

إن التغيير لا يكون بدون ألم؛ فهو يُولد في رحم التجارب المريرة التي تنقش في النفس بصمات الحكمة والتواضع. ففي رمضان، يُصبح الألم وسيلة للتطهير والارتقاء:

• جوع الروح والعطش للحق:

حينما يجوع الإنسان ليلًا في سبيل التقرب إلى الله، فإنه يتعلم أن الجوع ليس فقط جسديًا، بل روحانيًا، فكل قطرة عرق وكل لحظة تعب تُقربه إلى فهم أعمق لمعنى الحياة.

• لحظات السكينة والخشوع:

في سكينة الليل الرمضاني، يستيقظ القلب على همسات القدير، فيشعر الإنسان بأن كل صلاة وكل دعاء هي خطوة نحو عناق السماء، وهو يتخلى عن قيود الدنيا ليستقبل نور الإله.

• التجربة الصوفية والوجدانية:

مثلما قال الشاعر:

“كلما اتسعت الرؤية.. ضاقت العبارة”

هنا ينمو الإنسان في عالمٍ من التجرد والصفاء، فتتلاشى أغلال الذنوب وتنفتح آفاق الخلود، فيصبح رمضان محطةً لتجديد العهد مع الذات ومع الله.

6. شهر رمضان.. ميثاق الحب والعودة إلى الأصالة

في خضم هذه الرحلة، يتجلّى أن رمضان ليس مجرد موسم عبادة، بل هو ميثاق حب جديد يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وربه. ففيه:

• يُعاد ترتيب أولويات الحياة:

يُستبدل حب الماديات بحب الإلهيات، وتختفي الزيفيات أمام حقيقة الحياة الأبدية.

• تُعاد كتابة قصة النفس:

يصبح كلُّ فعل طاعة وكلُّ ذكر بمثابة حرفٍ في رسالةٍ أبديةٍ تُخطّها أيدي الرحمن، ويُستحضر فيها أن الإنسان ليس كما كان، بل هو نسخةٌ متجددة من نور الله.

• يُولد الإنسان من جديد:

إن كانت الأقدار قد كُتبت على صفحةٍ قديمة، فإن رمضان هو فرصةٌ لمحو تلك الصفحات وإعادة كتابتها بقلم التوبة والإيمان، حتى يصبح الإنسان جسراً بين الأرض والسماء.

نبضة أخيرة: بصيرةٌ من نور، وعهدٌ متجدد مع الله

في هذا الشهر الفضيل، لا يقتصر التغيير على التراكم الظاهري للأفعال بل يمتد إلى تجديد الروح وترميم العلاقات. شهر رمضان هو موعد اللقاء بين الإنسان وإلهه، بين القلب والوجدان، حيث تتشابك أوصال العشق الإلهي مع قوة الإرادة البشرية. هو الفصل الذي يُكتب فيه الفصل الأخير من قصة الحياة القديمة، وتُستهل قصة جديدة بنور الحق والإيمان.

إنه شهرٌ يدعوك إلى أن تعيد تعريف ذاتك، إلى أن تتحدى نفسك وتختار بين البقاء أسيرًا للطين أو الانطلاق نحو النور. فكما يقول الكتاب الكريم:

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: آية 9-10]

دع هذه الآية تكون نبراسَ طريقك، فكل خطوة نحو الله تُعيد لك حياةً جديدة، وكل توبةٍ صادقة تضيء دربك نحو مصيرٍ مشرق.

شهر رمضان.. ليس مجرد شهر من الزمان، بل هو لحظةٌ تُخلّد في القلب، وتبقى ذكراه نورًا يرافقك في كل دربٍ تخطوه. ابدأ بتغيير نفسك، فلو استطعت أن تُغير ذاتك، يمكنك أن تُغير العالم من حولك.