آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

إشكاليَّة الكتابَة في زمنِ السُّوشيال مِيديا

محمد الحميدي

لوسائلِ التواصل وتطبيقات السوشيال ميديا تأثير كبير على حَياة الإنسان، فقد عملت على إعادةِ توجيه سلوكياته وأنماط تفكيره، إذ لم يعد الالتقاء بالآخرين من الأصدقاءِ والعائلة أمراً ذا أهميَّة، حيث تراجع أمام الالتقاء الافتراضي والتواصل الإلكتروني، الذي أضحَى البديل المثالي والمناسِب، وهو ما امتدَّ تأثيره إلى الوسط الثقافي وكيفيَّة تعامل المبدعِين معَ بعضهم ومع إبداعهم، فقد تخلَّى العديد منهم عن المطولات واتجهوا للكتابة القصيرةِ الواضحة، التي لا تتطلب جهداً من القارئ في الفهمِ والإدراك ولا تستهلك الكثير من الوقتِ في الإدراك؛ ما أدى إلى طرح تساؤلٍ حول الفن الملائمِ للزمن الحالي بمتغيَّراته وأنماطِه وتأثيراتِه!

إشكاليَّة الكتابَة

تمثِّل المتغيِّرات الكثيرةُ عواملَ ضغطٍ على الإنسان، الذي يخضعُ لها مجبراً سواء أتمت بإرادته واقتناعِه أم لا، فالواقع المعاش يفرضُ السلوك والنَّمط والاتجاه العام، هي ممارسةٌ حياتيةٌ تحصل في جميعِ الأزمنة والعصور، حيث الإنسان ابنُ بيئته وزمنه، ولا يمكنُه العيش خارجهما وإلا عدَّ خارجَ التاريخ، وغير مستوعِب لمتغيِّرات الحياة، وأقل ما يوصف به أنه يعيش زمناً غير الزمن الذي يعيشُ فيه الناس، وهذه الإشكاليَّة لا تختصُّ بالناس العاديين، بل تتضخَّم وتكبر لدى المبدعِين، الذين يرونَ أنفسهم مسؤولين عن إدارةِ الحياة وتوجيهها، وإن لم يتحدثوا صراحةً عن ذلك.

الضَّغط يضعُ المبدعِين أمام امتحاناتٍ صعبة سواء على المستوى الكتابي أو الاجتماعِي، فمن ناحِية الكتابة ينبغي الاهتمام بجودة الطَّرح وعدم التطويل ودقَّة الوصول إلى القصدِ والإبانةِ عنه بوضوح، مع العناية بالعبارةِ والبحث عن الكلماتِ المثيرة للذِّهن والمغرية بالمتابعة، وإضفاءِ تفاصِيل مشوِّقة واستخدام أساليب غير معتادة، حيث المتلقي في الجانبِ المقابل مشبع بـ ”الكليشيهات“ الاعتياديَّة والمستهلكة، التي أحاطت به فعمِلت على توجيه ذائقته ولم يعد قادراً على الفكاكِ من أسرها؛ لذا لا بد من إعادةِ توصيف العلاقة بينه وبين الكاتبِ عبر إعطائها أبعاداً إضافية تناسب الزمن ومتغيِّراته.

العلاقةُ بين الكاتبِ والمتلقي تدور ضِمن حلقات واسعة، تبدأُ من لحظة الكتابة واختيار الموضوع، وصولاً إلى ترتيب الأفكار وانتقاء الكلمات، ولا تتوقَّف عند حدِّ الانتهاء والنشر، فالتفاعلُ بينهما يستمرُّ بلا توقف، مدفوعاً بالمتغيرات الكبرى في الحياةِ وعلى رأسها وسائل التواصلِ وتطبيقاتِ السُّوشيال ميديا، التي استبدلت المفاهيم الاعتيادية بمفاهيمَ جديدة ومختلفة، حيثُ الكتابة سابقاً تكفي للتعبيرِ عن القصد وإبانة الدلالة، أما اليوم فيشتركُ الصوت والصورة والفيديو في صِناعة المعنى وترسيخِه.

مشكلةُ الكتابةِ تتمثَّل في بعدها عن المتلقي وحاجته إلى الغوصِ في الكتب والمراجع من أجل الوصولِ إليها، وهيَ مشكلة عالجتها التطبيقات التواصليِّة، التي دأبت على إعادة التذكير بما فات من أحداثٍ وذكريات؛ بهدف ربط الفرد بالتطبيقِ وجعله يقضي أطول وقت بداخله، أما الأسبابُ فمختلفةٌ منها التجاري والكسب المادي، ومنها الإحصائي ومعرفةُ توجهات الناسِ وسلوكياتهم، ومنها الفكريُّ ومعرفة الاتجاهات التي يهتمون بإدارةِ النقاشات حولها، إذ هي تستفيد مما تحصلُ عليه من بيانات ومعلومات بطرقها الخاصَّة.

المفاهيمُ الجديدةُ وغير الاعتياديَّة أعادت تشكيل حياة المبدعِين والكتاب الذين فقدوا دورهم في وضعِ القوانين والقواعد، فسابقاً يضع المبدع قوانينه الخاصَّة بتلقي الأعمال التي يكتبها، أما اليومَ فبات خاضعاً للقوانين والقواعد الموضوعة سلفاً، وهو أمر تشاركَ فيه جميع الأفراد بلا استثناء، إذ أتاحت لهم التعبيرَ عما يرغبون وفق إمكانياتهم وقدراتهم؛ ما أدَّى لكثرة المنشغلين بالكتابةِ والتعبير من خلالها، حيث ما عادوا يكتفون بالكتابة، بل أضافوا لها صوراً وفيديوهات وتصاميمَ تعبِّر عن الدلالة وتساعدُ في الإبانة.

أشكالٌ تعبيريَّة مُختلِفة

مفاهيمٌ جديدةٌ طرأت على كيفيَّة مقاربة الناس للحياة، ومن ضمنها مفاهيمُ التواصل والتعبير، فما كان قديماً يقتصر على النخب والمؤثرين بات اليوم في إمكانِ البسطاء وغير الفاعلِين الحصول عليه، إذ لأجل الصعود على المنصات واكتساحِ وسائل التواصل ليس عليهم إلا أن يُقدِّموا المختلف عن السائد والمتداول لنيلِ الشهرة وكسب الانتشار، وهذا ما تقوم عليه فلسفةُ وسائل التواصل؛ حيث السعي نحو الطرح المختلف عن المألوفِ والمفارق للموجود هي من تتحكَّم في مدى حضورهم ومتابعتهم من قبل الآخرين، الذين ما عادت تثيرهم الكليشيهاتِ الجاهزة والمعتادة، فالهدف جذبُ الأنظار بأي كيفيَّة مهما بدت غريبة.

الطرحُ الجديدُ على مستوى العلاقات الحياتيَّة ألقى ظلاله على الفنونِ والآدابِ المعاصرة، فالأشعارُ المطولة والقصائد البلاغية والكتابات النثرية المزدحمة بالاستعاراتِ والمجازات تقلصت وتضاءَل حضورها، وتم استبدالها بقصائد قصيرة وكتابات واضحة ومباشرة، لا تستهلك وقتاً في القراءة أو جهداً في التفسير والتأويل، وهو مطلبٌ رئيس من مطالبِ الزمن الحاضر المتسم بالسرعةِ والاستهلاك، حيث الناس يشعرون بضيقِ الوقت وعدم كفايته، وكذلك بالملل من كثرة مُرور الكتابات والصور المتشابهة؛ ما دفعهم إلى البحثِ المستمر عن الجديدِ والمختلف.

الجديدُ والمختلفُ عنوان السُّوشيال ميديا ووسائل التواصل، وهو ذاته عنوانُ الفنون والآداب الحديثة، فالمفاهيمُ المتعلقة بالحياة انعكست على الإبداع وأصبح لها تأثير هائلٌ على المبدعين، الذين تأثروا بها وخضعوا لقوانِينها التي هي قوانين السرعةِ والاستهلاك، وهذان القانونان هما اللذان يصوغان حرية المبدعِ وحركته، إذ تقلَّص الوقت المخصَّص للتلقي؛ ما تسبب في اقتصار الكتابات على عبارات قصيرةٍ ومباشرة، لا تستهلك كثيراً من الوقتِ في قراءتها وفهمها، وهو أمر أدَّى لتغيُّر في الحركة الإبداعيَّة، حيث ما عادت تقتصرُ على الكتابة وحدها، بل أضيفت لها الميديا من صور وتصاميمَ وفيديوهات.

الأشكالُ التعبيريَّة الجديدة دمجت الكتابة بالميديا فأنتجت نوعاً مختلفاً من الفنون عماده تداخُل البصري والسمعي بالذهني واللغوي، وهي أمور أربعة باتت تعطي أيَّ عمل إبداعي معناه ودِلالته داخل وسائل التواصل وتطبيقات السوشيال ميديا، فالكتابةُ وحدها ما عادت تُثِير وتجذب؛ بسبب طغيان الصورة وانتشارها وتوسع استخدامها، وكذلك الصُّورة وحدها لا تمتلِكُ الدلالة ولا تستطيع حصرها ضمن فضائها رُغم انتشارها وشيوعها، وهذا التداخل أثَّر على الإبداع وأدَّى إلى انتقاله من الاعتماد المنفردِ على لون واحد محدَّد إلى محاولة إشراك الفنون المختلفة والمتنوِّعة ودمجها في بعضها؛ بهدف الوصول إلى أقصى تأثيرٍ وأوسع انتشار.

زمنُ السُّرعة والاستهلاك هو نفسه زمنُ تقييد المبدعِ وتقليص حركته، لذا لجأَ إلى الالتصاق بالعالم الافتراضي؛ بحثاً عن أشكال تعبيرية مختلفة، تسمحُ له بالانتشار والتأثير، وهو ما وجده في دمج البصري والسمعي بالذهني واللغوي، فأنتج نصوصاً تتداخل فيها الكتابةُ والميديا؛ ما مهد لتأسيس ذائقة مختلفة على مستوى الوعي والإدراك، إذ لم يعد الاستقبالُ والتفاعل جماهيريًّا وجماعيًّا، بل غدا فعلاً فرديًّا وخاصًّا، حيث أصبح لكل فرد خصوصيَّة في التلقي تختلف عن خصوصية الآخرين، وهذا أمر أدَّى لإحداث تغيرات على مستوى الحياةِ الشخصية والفاعليَّة الإبداعية.

عوالمُ الوحدةِ والدَّهشة

العيشُ ضمن عالم السوشيال ميديا يعني إيجادَ حياة أخرى يتنفَّس عبرها الفرد، فلا يكتفي بالمشاركةِ في أحداث ونقاشات بلده، بل يشارك العالم أجمعَ وبمختلف اللغات، إذ عمليات الترجمةِ الصوتية والكتابية أضحت بمتناول اليد؛ ما جعله دائمَ الانشغال وغير قادر على ملاحقةِ المستجدات، فكلما طرأ حدث مستجد بحث عن أخباره وشاركَ في نقاشاته، دون النظرِ إلى أهميته أو عدم أهميته ومدى تأثيره وحضوره في حياته، وهو ما يشيرُ إلى انشغاله وملء فراغه بأيِّ شيء، حتى غدت حياته مجموعة من الانشغالات والحوادثِ التي لا تنتهي ولا يمكنُ حصرها.

الانشغالُ الشَّديد بالحياة أوجد للأفراد طُرُقاً مختلفة للعيش، بعضهم اتجه إلى الانغماسِ فيها وتجاوز واقعهِ ونسيانه، وبعضهم أتاح لها الحضور والتواجد في حياته بنسبة معقولة أثَّرت على علاقاته الفعليَّة واستهلكت منها، وبعضهم رفضها مفضِّلاً العيش بدونها وهؤلاءِ قلَّة لا يحتسبون، القِسمان الأول والثاني انشغلا بالعيش داخل تطبيقاتِ السوشيال ميديا مفسحين لها مجالاً واسعاً ضمن حياتهم، كحال المبدعين من الكتاب والفنانينِ والمثقفين، الذين نسجوا علاقاتٍ وثيقة مع أفراد يمتلكون نفس التوجُّه من أماكن وبلدان مختلفة، فإزاءَ هذا الانفتاح الواسعِ على العالم تقلَّص حضورهم ضمن بيئاتهم، حتى باتوا يعيشون على هامشِ مجتمعاتهم، يُعانون الوحدة والابتعاد عنهم، وهو أمر ملاحظ في كل لقاءٍ عائلي أو ثقافي أو اجتماعي، إذ يتمُّ الانشغال عن الحدث بالحديثِ والتَّصوير والكتابة.

الوحدةُ سِمة الكائنِ في العصر الحديث، فرغم وجوده ضمن المجتمع وبين الناسِ إلا أن حضوره معدومٌ وفعاليته لا تذكر، وهذا ما يقود إلى تأثيراتها على المبدعين في شتَّى المجالات، الذين هم جزءٌ من النسيج الاجتماعي قبل أن يكونوا كتاباً ومبدعين، إذ سيُعانون الوحدة والتهميش وعدمَ التقدير، ولن يتم الالتفات إليهم إلا بمقدار ما يقدمون لمجتمعهم ويُشاركون في أداء واجباته، وهي أمورٌ ستغدو بمرور الوقت صعبة على التنفيذ؛ ما يجعلهم يميلونَ إلى البقاء ضمن عوالمهم الافتراضيَّة، حيث يشاركون ويتفاعلون مع أهمِّ الأحداث والفعاليَّات وأبرز المتغيِّرات والمستجدات.

ثمَّة تغيُّر كبير يصيب الفرد في عالمه الافتراضي، فالخبرات الإنسانيَّة والعلاقات الاجتماعية التي تعمل على تكوينِ شخصيته وتمثِّل عمق هويته لا يحصلُ عليها من بيئته؛ نتيجة ابتعاده وبقائه وحيداً، وهو أمرٌ سينعكس في كتاباته التي ستبتعد عن التعقيداتِ اللغوية، كما ستميل إلى البحث عن إكمالِ النقص في مجال الخبرة والعلاقة مع الآخر؛ ما سيُعطي أهمية قصوى للنثر الذي سيغدو مطلوباً ومرغوباً؛ لكونه الأقدر على نسج الحكايات وحبْك الأحداث التي بواسطتها يتم نقل الخبراتِ في الحياةِ والعلاقات.

النثرُ أنسبُ الأشكال التعبيرية في العصر الحديث؛ إذ أنها تخلق عالماً بديلاً بعيداً عن العالم الواقعي، ما يمنحُ الأفراد مناخات مناسبة كي يتعرَّفوا عبرها ومن خلالها على العالمِ الواسع الذي باتوا أحد أعضائِه والمشاركين في صناعتِه وتشييده، فما افتقدوه في واقعهم سعَوا إلى تعويضه في عوالمهم الافتراضيَّة، وأبرز ما يفتقدون الخبرةَ الإنسانيَّة والعلاقة مع الآخر، وهذان الأمران لا يستطيعون التَّعبير عنهما إلا نثراً.

خِتاماً

تقلُّبات الحياةِ وتغيُّراتها والاتجاه بها نحو الاستهلاك والاستبدال؛ تعزَّز مع ظهور السُّوشيال ميديا ووسائل التُّواصل، التي دفعت الفرد إلى الوحدة والانعزال؛ ما تسبَّب في فقدانه الخبرة الإنسانية وافتقادِه العلاقات الاجتماعية، ولأجل تعويض نقصه انغمسَ في عوالمه الافتراضية، مبتعداً عن الأشكالِ التعبيرية التقليدية، حتى أضحت له خصوصية لُغويَّة مالت إلى السهولة والبساطة والوضوح، مبتعدةً عن التعقيدات والمجازات، الأمر الذي جعل النثرَ أنسب الأشكالِ وأهمَّها في العصر الحديثِ وربما المستقبلِ القريب.