آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

الاتجاه التوفيقي إزاء العلمنة في رؤية الدكتور الأنصاري

زكي البحارنة

في أواخر ديسمبر 2024 ارتحل الدكتور محمد جابر الأنصاري ”رحمه الله“ مخلفاً إرثاً فكريا متعدد الأبحاث في قضايا معاصرة فكرية واجتماعية وأخرى دينية وسياسية وفلسفية، ومن جميل تلك الأبحاث دراسته الموسعة في رصد وتقييم الاتجاه ”التوفيقي“ إزاء العلمنة ذلك المشروع الذي يسعى للتصالح والتوفيق بين ثنائيات العقل والإيمان، العلم والدين، والشرق والغرب وما يدور في إطار هذا الجدل الفكري الاجتماعي قديما وحديثا.

في كتابه ”تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي“ يشير المفكر الأنصاري بالقول: ”عندما يتعرض المجتمع العربي للعنف الاجتماعي والانشطار الحضاري بين التمسك بالتراث ومحاكاة الغرب تظهر النزعة“ التوفيقية ”فتحول دون تصدعه وانقسامه وتعيد الالتئام بين قديمه وجديده، بين ماضيه وحاضره، وبين تناقضاته وتعارضاته العديدة مولدة صيغاً توفيقية شتى في الفكر والسياسة والاجتماع“.

السؤال الجوهري الذي أسس لنشوء الاتجاه التوفيقي إزاء العلمنة في العصر الحديث هو: هل بالإمكان رفض التفاعل والانفتاح مع الحضارة الغربية ليس في منجزاتها المادية فحسب، ولكن في قيمها وفلسفتها ونظمها الاجتماعية والأخلاقية والتربوية؟ ومما يزيد هذا التساؤل إلحاحاً أن الكيان الإسلامي برمته تقابل مع العقل والثقافة الأوربية المعاصرة في ظروف هيمنة وليس في حالة قبول كما حصل من انفتاح على العقل والفلسفة الإغريقية في العصر العباسي في أجواء من الثقة بالنفس حضارياً وعقيدياً.

ويعرض الدكتور الأنصاري في دراسته القيمة ”الفكر العربي وصراع الأضداد“ هذه الإشكالية بدراسة وافية جامعة مستعرضاً المواقف العديدة والأبحاث المتوالية لباحثين وعلماء العالم العربي والإسلامي، ذلك أن التحدي الغربي في حقبة الهيمنة البريطانية الفرنسية على العالم الإسلامي مطلع القرن العشرين بالإضافة إلى أنه كان سياسياً وعسكرياً وإدارياً فقد جاء مع تحولات في الفكر والاجتماع والتقنية والصناعة.

هذه الهيمنة التي مكنت الغرب من فرض أسلوبه في الإدارة ومنهجه في التربية ونمط الاقتصاد، أصبحت مؤثراته الحضارية تنفذ إلى المجتمعات العربية، مما أوجد تمَوَّجاً وحراكاً عربياً يعمل على إحلال جوهر الحضارة الغربية القائمة على النزعة الليبرالية ومنهج النقد التاريخي العلمي المتحرر من الدين، وفي أحسن الأحوال تحجيم دور الدين في الإطار الروحي الفردي، فأقيمت محاضرات وصدرت صحف ومؤلفات تدعو إلى عقلانية أعمدة التنوير لعصر النهضة الأوربية والعلمانية الخالصة وإبراز الحاجة إلى مجاراة التمدن الأوربي الجديد، فبرز مصطلح ”العلمانية الإسلامية“ وكان من ضمن نماذجه الواقعية حزب الأمة في مصر والتجربة الكمالية في تركيا إضافة لعشرات الكتاب والمفكرين كالشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير ”الإسلام وأصول الحكم“ طه حسين وكتابه ”في الشعر الجاهلي“ وفرح أنطون معاصر محمد عبده ومجادله وغيرهم، ويشير الدكتور الأنصاري على أن هذه الثورة العقلية بلغت ذروتها وأوشكت أن تحقق انعطافاً حاسماً في مجرى الفكر العربي في ثلاثينيات القرن الماضي ولكنها تراجعت وبدأت في الانحدار.

في مقابل هذا التوجه العلماني الخالص خاض عدد من علماء الدين والباحثين مشروعاً فكريا وفلسفياً عرف بمصطلح ”التوفيقية“ كإجابة على سؤال التحدي: هل يمكن استيعاب التقدم العلمي والثقافي الغربي دون الإخلال بالانتماء إلى الموروث الحضاري الإسلامي؟ وهل يمكن الاستفادة من إيجابيات الحضارة الغربية دون أن تكون هي المرجعية القصوى على المستوى الفكري والفلسفي، ثم على مستوى السياسة والاقتصاد؟

يؤكد الدكتور الأنصاري بأن ”الفكر العربي لم ينشغل بقضية مثلما انشغل بالتوفيق بين ثنائيات العقل والإيمان والعلم والدين، التراث والمعاصرة، الشرق والغرب... الخ كما يشير بأن النزعة التوفيقية ليست حديثة طارئة بل لم تأتي من فراغ، فالحضارة الإسلامية هي الحضارة الأولى من بين الحضارات التاريخية الكبرى في تاريخ البشرية التي جمعت ووفقت بين العنصر الروماني“ الأوربي الغربي ”وبين العنصر الفارسي والهندي في نسيج حضاري واحد، ويضيف بأن الوسطية - الشديدة الصلة بالتوفيقة - هي من أبرز الخصائص التي تنسب للتصور الإسلامي، كما إن الموقع الجغرافي للمنطقة ومنذ القدم يؤثر ويتأثر بالبحر الأبيض“ المتوسط" بينها وبين الغرب الأوربي.

تلك المؤشرات كانت الدافع للدكتور الأنصاري لتقصي ”ظاهرة“ التوفيقية منذ العصر الوسيط وحتى القرن العشرين باعتبارها نزعة فكرية سائدة جديرة بالتشخيص والفهم العميق لها مبيناً أن تلك المؤشرات لا تعني سلامتها من النقد والاتهام وقد نالت حظها في ذلك خصوصاً من قبل الاتجاه السلفي الصرف والاتجاه العلماني الخالص ”ما يجعل دراستها بموضوعية وحيادية أمراً ضروريا“ وفق تعبير الدكتور الأنصاري.

”التوفيقية“ المعاصرة انطلقت تاريخياً بجهود ومواقف إصلاحية لجمال الدين الأفغاني ”1838-1897“ ثم محمد عبده ”1849-1905“ فعبد الرحمن الكواكبي ”1854-1902“ إلاّ أن مفهوم ”التوفيق“ كمصطلح وفكرة انطلق من خلال المحاورة الفكرية الجدلية حول علاقة الدين بالعلم عام 1926 على صفحات ”السياسة الأسبوعية“ المصرية اشترك فيها عدد من أعلام الفكر بمصر من محمد حسين هيكل، رشيد رضا، محمد فريد، طه حسين، مصطفى عبد الرازق وبالتدريج استقر المصطلح في الدراسات المنهجية لتاريخ الفلسفة الإسلامية.

ويشير الدكتور الأنصاري لأهم العوامل والمؤثرات التي أدت لتبلور الاتجاه ”التوفيقي“ الهادف إلى خلق صيغة فكرية متوازنة بين قيم الإسلام والحضارة الأوربية الجديدة، ويأتي في مقدمها إخفاق الحركات ذات المرجعية السلفية المنغلقة على الذات في رد التحدي الخارجي وذلك بعد سقوط الدولة العثمانية كونها لم تحقق أي قدر من التحديث لاستيعاب عناصر القوة المعنوية أو المادية في الوافد الجديد.

من جهة أخرى كان الفكر المسيحي العربي بحكم جذوره الدينية وصلاته الفكرية بالغرب أكثر استيعاباً لمؤثرات الرافد العلماني الغربي وكان له دور في جلب العلمانية المادية الخالصة الأمر الذي أدى في أحد تداعياته إلى تقبل العقل العربي للماركسية المرتبطة بالمعسكر الشيوعي الملحد منذ عشرينيات القرن الماضي، فكان ذلك عامل آخر في دفع ”التوفيقية“ الإسلامية بحكم صراعه معها إلى مزيد من التفاعل اليقظ مع الحضارة الغربية، إضافة إلى العامل الثالث وهو الاحتلال المباشر ودور الحاكم ”المنتدب“ من قبل دول الاستعمار، ومن أشهرهم اللورد ”كرومر“ في مصر الذي قاوم أي إحياء أو تجديد يستند إلى الإسلام.

التوفيقية كمنهج

”التوفيقية“ فلسفياً في رؤية الأنصاري تقول: إن من أبرز الوظائف الحياتية - للفكر الإنساني - هو التصدي لظاهرة الثنائية في الحياة الإنسانية والوجود الكوني وما يتفرع عنها من أضداد ومتعارضات ومحاولة تحليلها وتفسيرها ثم حسمها وحلها بالتوصل إلى صيغة تستوعب صراع الأضداد وتلطفه بحيث تصبح معاناة هذا الصراع أمراً في حدود الاحتمال الإنساني من قبل الأفراد والجماعات، إذ يستحيل التعايش مع فوضى الأشياء واصطراع العناصر أو الاستمرار في حركة الانتقال من ضد إلى ضد، من هنا فإن ”التوفيقية“ لا تلغي الثنائية ولكن تبقيها في حالة تصالحية بمنأى عما يصاحب الثنائية من صراع.

أما على صعيد الفكر الديني فقد أورد الدكتور الأنصاري اقتباسات لآراء عدد من الباحثين ”التوفيقيين“ تبرز معادلة التكافؤ والتوازن للفكر الديني إزاء العلمانية الغربية، مؤكدين على وجود معامل عقلي ذاتي في الفكر الديني الإسلامي يستوعب مناهج البحث الحديثة والعصرنة مع التمسك بقيم الدين.

ففي ظل المعادلة المتقابلة بين الأصولية الإسلامية التي تصر على أن الإسلام نظام شامل لا يقبل التجزئة، والعلمانية بالمقابل تصر بأن الحضارة الحديثة بكل ما تحتويه من علوم وفلسفات وفنون وأخلاقيات وعادات أنها وحدة لا تتجزأ، قرر بعض الباحثين كقسطنطين زريق ”أنه إذا أردنا أن نكون جزءاً من العالم الذي تهيمن عليه العلمانية الغربية، يجب أن نجاريه في نظم العيش والفكر ونتكلم لغته ونضم مقدراتنا إلى مقدراته“.

أما منطق الاتجاه التوفيقي يرى أنه في سبيل تجديد الفكر الإسلامي يجب إتاحة التفاعل الجدلي ”الطبيعي والحتمي“ بين نقيضي ”التوفيقية“ الرئيسين السلفية والعلمانية، ويسعى إلى توليد مندمج جديد بين ما في السلفية من أصالة وبين ما في العلمانية من صيرورة وتغير، ويصبح التوفيق مستوعباً جانبي الحقيقة بعد الملائمة بشكل خلاق وفعال بين فكرتها التوحيدية الأم وديالكتيكية العصر الحديث، وتعيد توحيد عنصريها التراث والمعاصرة.

بيد أن الطور الثقافي الأوربي الجديد أصاب الإسلاميين ”التوفيقيين الأوائل“ بالحيرة حينما ظن أكثرهم أن المعضلة هي معضلة تشريعية ”فقهية“ فحصروا جهودهم في دراستها واقتراح الحلول لها، وخفي على أكثرهم أن التحول الأوربي أوسع من الفقه والتشريع إذ تطال العقائد والأخلاق أيضاً، وفي هذا السياق ينقل الدكتور الأنصاري رؤية عميد كلية دار العلوم بمصر مطلع الخمسينات إبراهيم اللبان مفادها: أن نجاح التوفيقية يكون بالعمل على إحياء الإسلام بشرطين أساسيين: أولاً تحديث الدين وتجديده اجتماعياً وسياسياً، وثانياً الاستعانة بالفلسفة الأوربية الحديثة التي استجدت منذ ديكارت، لتحقيق ثورة تجديدية ضمن الإطار التوفيقي المتصالح مع العقيدة الإسلامية تصالحا يحقق التغيير النوعي وتصويب الإيمان الديني عن طريق النظر الفلسفي الرصين المقنع.

ولا شك أن الفكر الفلسفي الوافد مثل تحدياً أمام الفكر الديني المعاصر ففرض هذا المسار من الاستجابة إلى جانب نماذج أخرى أبدت محاولات استيعاب المفاهيم الفلسفية الحديثة بشيء من التحفظ لكي لا تخرج عن نطاق الفلسفة الدينية التقليدية، وفي هذا السياق يتطرق الأنصاري لمحاولة المفكر العراقي محمد تقي المدرسي في رد مبدأ التناقض ”ديالكتيكية هيجل“ إلى مبدأ ”العلة والمعلول“ فيذهب إلى القول أن التناقض الديالكتيكي هو ذاته التناقض بين العلة ومعلولها، والذي ينجم عنه التغير والحركة، فإذاً لا مبرر لإحلال الفلسفة الديالكتيكية محل الفلسفة الغيبية، فالمدرسي يعتبر أن الديالكتيكية غيرت لفظ ”العلة“ إلى لفظ ”التناقض“ وهو عين ما تراه الفلسفة الغيبية كسبب إلى الحركة والتغير، فهو مجرد اختلاف لغة.

ويعقب الأنصاري بأن تفسير المدرسي هو محاولة توفيق قلقة بين المنطقين، لأن مبدأ التناقض - الهيجلي - هو احتواء الشيء على نقيضه المتولد من ذاته، بينما العلة والمعلول هو التناقض الذي يحدث بين شيئين مختلفين، فالمدرسي وقف عند حد التناقض الخارجي بين الأشياء ولم يتقبل التناقض الذاتي في الشيء الواحد.

وفي نموج توفيقي آخر يقتبس الأنصاري رؤية العالم الأزهري محمد البهي في محاولته لذات الفكرة ومفادها أن مفهوم ”التضاد“ كالحار والبارد والظلمة والنور، ليس تناقضاً بين أجزاء الشيء الواحد وإنما في طبيعته الواحدة، بمعنى أن ”الحار“ يتحول إلى درجة حرارة أقل، وقد يتحول إلى النقيض ”البارد“ بناءً على مبدأ الصيرورة في الشيء الواحد، وهنا ”البهي“ لا يرفض هذا المبدأ طالما يستخدم لإثبات ”وجود العلة العامة للكون“ ولكن لا يقبل الاستدلال والوقوف به عند الحس.

التوفيقية والواقع الموضوعي

ضمن رؤية الدكتور الأنصاري للواقع العربي فيرى أنه واقع في أسر ثلاث حالات: الماضوية الواقعة تحت وطأة التراث، أو العلمانية الواقعة تحت تأثير الغرب، والحالة الثالثة هي ”التوفيقية“ الساعية في إيجاد توازن بين حضارة الغرب والتراث، وبذلك فإن الواقع العربي في حالة استلاب بين قوتين هما غربة المكان ”حضارة الغرب“ وغربة الزمان ”التباعد التاريخي للتراث“، ويتساءل: أين المشروع العربي؟ أين إرادته لا المحكومة برفض طرف لصالح آخر ولا الإرادة المشلولة بالتأرجح بين الحدين؟

واقع الأمر فإن ”التوفيقية“ أتت في صيغ مختلفة منها توفيقية العقل والإيمان، والتوفيقية المتأثرة بالمثالية الألمانية، وهناك التوفيقية الانتقائية، وفي عام 1962 تبنى جمال عبد الناصر مفهوم ”الاشتراكية العلمية“ وأدى أثره الكبير في توجيه الفكر الديني بمصر لتأكيد أصالة الاشتراكية في جوهر المعتقد الإسلامي في مقابل الاشتراكية الإلحادية، وذلك ضمن ظرف عام وصل فيه التفاعل بين الاشتراكية العربية والماركسية حد ”التفاعل الحميم“ وفق توصيف الأنصاري، وإجمالاً كانت أجواء الخمسينات والستينات من القرن العشرين وفي ظل تزايد المؤثرات الأيديولوجية الغربية والشرقية أدت إلى إضفاء ثوب إسلامي ومحتوى ديني على الوافد الفكري الخارجي، ولم يتوقف هذا المد إلاَّ بعد هزيمة 67، لتستعيد القوى المحافظة قوتها وارتفاع صوتها من جديد مطالبة بإحياء النزعة الدينية والعودة لقيمنا وتراثنا لمواجهة الهزيمة.

من جهة أخرى يشير الأنصاري إلى أن الاقتباس من الحضارة الغربية غلب عليه هم الحاجة إلى التقنية والتقدم المدني أكثر من الإيمان بالمفاهيم الإنسانية والعقلية والفلسفية التي عرف بها فلاسفة الغرب الحديث، فالتفاعل الحضاري انحصر في تلقي العلوم البحتة كالكيمياء والطبيعة والطب والصناعة... الخ أما الاتجاهات الفلسفية بجملتها وتفسير التاريخ ودراسة الأديان كان يرافقها هجوم وتقليل من أهميتها من قوى دينية واجتماعية.

في ظل هذا المسار وتحت تغلغل الوافد الحضاري الغربي تشكلت في الواقع العربي ازدواجية خطيرة بين السلوك الفعلي والوعي النظري، إذ بينما تزداد العلمنة في المجتمع العربي سلوكياً وعملياً يزداد بالمقابل الدعوة للتمسك بالإسلام وإحياء أحكام الشرع، فترى في معظم المجتمعات الإسلامية واقعاً عصرياً منفصلاً عن الدين عملياً ومتمسك بالدين لفظاً وشكلاً، وبهذا يرى الأنصاري بأن التوفيقية المحدثة وقعت في أزمة تمثلت في أن عنصري العلمانية والسلفية فقدا أصالتهما ودخلا الحياة العربية المعاصرة في شكلين مجتزئين، بمعنى غدا الأمر توفيقاً بين حداثة مجتزأة وتراث مجروح الأصالة.

أخيرا يبلور الأنصاري فكرة ”التوفيقية الأصيلة“: هي التي تًمُتُ عن إيمان أصيل وشامل بالدين من حيث هو حقيقة وجود ومصير، وتَقَبُّلْ مخلص وشجاع للحكمة من حيث هي حقيقة خالصة أولاً، وثانياً تتخذ من المعاناة والكينونة والشوق والموقع الفريد في الزمان والمكان قيمة أساسية وحيدة يغربل على أساسها ما تتقبله من التراث والحضارة الحديثة على حد سواء".

ويضيف بأن ذلك ليس خياراً سهلاً، فالتراث حقيقة قائمة في الوعي العربي سلباً أو إيجاباً والحضارة الحديثة حقيقة من المحال تجاهلها، فلا بد من اتخاذ الكينونة قيمة عليا تتقرر على أساسها مراتب القيم الأخرى من الموروث والمقتبس ليعيد العربي بعد اكتشافه لذاته اكتشاف التراث والعصر من جديد برؤية ذاتية مستقلة صادقة وفاعلة.

ويستدل الأنصاري من خلال بعض الآراء البحثية لعدد من الرموز الفكرية والدينية والتي تعرض لها بتفصيل مطول عرضاً ونقداً، وذلك في دراسته ”الفكر العربي وصراع الأضداد“ على أن المدخل ”التوفيقي“ هو المدخل الوحيد على الأرجح لاستيعاب الأفكار الجديدة بشكل غير تصادمي مع الإسلام، ومن بين تلك الأبحاث رؤية عباس العقاد ”1889-1964“ في التوفيق بين المعطيات القرآنية والمعطيات الداروينية بما يتعلق بنظرية النشوء والارتقاء من منطلق إيماني لا يتعارض مع الدين.

ففي كتابه ”الفلسفة القرآنية“ قارب العقاد موضوع التطور الكوني والبيولوجي لإزالة الفجوة بين مفهوماته العلمية والمفهومات القرآنية حول هذا الأمر فأعطى مدلول ”الأيام الستة“ امتداداً دهرياً ”وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون“ الحج ”47“ وهكذا مراحل خلق الإنسان من بدء خلق الطين إلى التسوية إلى بث الحياة أخذت من الزمن الذي قدره الله تعالى في تلك المراحل لخلق البنية الآدمية.

وقد سبق العقاد في تفهم مذهب التطور الدارويني في الإسلام، عالم الدين العراقي محمد رضا الأصفهاني ”1861-1943“ الملقب بأبي المجد، كأول نظرة دينية مسلمة حيادية حيث اعتبرها الأصفهاني قضية علمية قابلة للبحث وليست مسألة الحادية.

وفي المحصلة فإن التوفيقية ترى أن الواقع الموضوعي اليوم يتطلب اتجاهاً ”توفيقياً“ يرتكز على رؤية ذاتية فاعلة ومستقلة تعمل على غربلة التراث والاستفادة من إيجابيات ثقافات الآخرين دون أن تكون هي المرجعية القصوى أو فرض استنساخها.

التوفيقية وازدواجية الغرب

بقدر ما كان السؤال المحوري حول إمكانية استيعاب التقدم العلمي والثقافي للغرب والاستفادة من إيجابيات حضارته ملحاً على المستوى الفكري والسياسي مما أوجد عدة صيغ وموازنات ”توفيقية“ يبرز سؤال محوري آخر وهو: هل يمكن تجاوز ظواهر الازدواجية الغربية بين الفكر والممارسة؟ أم هذه الازدواجية تقف حائلاً دون استيحاء المفاهيم الفكرية والفلسفية لتلك الحضارة خشية الوقوع في الأزمة الأخلاقية ذاتها؟

الغرب بمسلكه العملي في التعامل مع مجتمعات وشعوب الشرق، لا شك أنه يعطي المبررات للاقتناع بازدواجيته رغم رسالته العلمانية التحديثية، بل تؤكد تلك الممارسة بعد المسافة بين المعرفة والسلطة كما أبان ذلك المنظر الاجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو ”1926-1984“ بأن تاريخ الغرب كان يسعى إلى إقامة مسافة قصوى بين المعرفة والسلطة مما ولد انفصاماً حينما تم تقسيم العمل بين رجال السلطة ورجال المعرفة المغلف بالكثير من النفاق، أمام هذا الواقع الحقيقي للغرب على مدى تجاوز القرنين من الزمن المتمثل في التفوق الحضاري من جهة، وازدواجية المعايير من جهة أخرى، ما هو موقف الاتجاه التوفيقي من ثقافة الغرب؟

بداية فإن مسألة التوفيق بين الحضارات لا يمكن أن تتم بالتبسيط إلى ما تبناه بعض الباحثين بأن مسايرة الحضارة الغربية أمر طبيعي، فالحضارة الغربية اتكأت في الماضي على معطيات حضارات سبقتها وبالذات الحضارة الإسلامية، فهذه مقولة غير دقيقة إذ كان اقتباس الغرب انتقائياً فقد أخذت من المسلمين مجالات الطب والهندسة والرياضيات وجزء كبير من الفلسفة، ولكنهم أحجموا عن أخذ العلوم الدينية والتاريخية وكذلك الآداب والفنون، وهكذا قبلهم فإن العرب والمسلمين لم يقبلوا كل معطيات الحضارة اليونانية، من هنا فإن الاتجاه ”التوفيقي الأصيل“ وفق توصيف الأنصاري يرى أن مسار التوفيق لا يكون تلقائياً في كل شيء وإنما يتطلب البحث عن نقاط الالتقاء في ممارسة تستند إلى العمق التاريخي والظروف الموضوعية والطموحات الحضارية والاستقلالية.

ولا يغفل الدكتور الأنصاري من جهة أخرى آراء المعارضين للفكرة ”التوفيقية“ والتي من أبرزها رؤية الدكتور صادق جلال العظم ”1934-2016“ والتي وجد فيها ظاهرة تستهدف الملائمة بين الأنظمة والأفكار المتناقضة، ولا يتم هذا التوفيق إلاَّ بعد تشويه الموضوعات التي تحاول التوفيق بينها، لذا يرى بأن كل محاولات التوفيق الكلاسيكية القديمة والمعاصرة هي جولات وصولات فاشلة.

ويعقب الدكتور الأنصاري على تلك الرؤى بأن بحثه في ”التوفيقية“ ليس دفاعاً عنها إنما أراد تركيز الضوء على أن الطبيعة العربية الإسلامية قديماً وحديثاً مرتبطة بالروح التوفيقية، لذا ينبغي دراستها وتحليل علاقاتها وقوانينها الخاصة بها على هذا الأساس، لأنها ظاهرة مستمدة من الطبيعة الحضارية العربية، أما الانتقاد الموجه لها من الاتجاهين السلفي والعلماني فهو تعبير طبيعي للجدل الخاص بطبيعة الفكر والمجتمع المعاصر في الشرق العربي.