آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

الاستبطان الذاتي للذات والنفس: رحلة الإنسان إلى أعماقه

عماد آل عبيدان

مدخل: ما هو الاستبطان الذاتي؟

الاستبطان الذاتي، أو ما يُسمى Introspection في الفلسفة الحديثة، هو رحلة الوعي إلى أعماق النفس، محاولة للإنصات إلى ذلك الصوت الخافت الذي يتحدث في الداخل. إنه عملية التفكر الداخلي المتأمل، حيث يسائل الإنسان دوافعه وأفعاله وأفكاره، ويزنها بموازين القيم والحقائق.

في تراثنا الإسلامي، الاستبطان هو أحد وجوه المحاسبة التي دعا إليها القرآن الكريم، وجسدها النبي محمد ﷺ وأهل بيته الأطهار في سيرتهم. بل إن النبي ﷺ يقول:“حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”«رواه الترمذي، وهو حسن صحيح».

الاستبطان ليس مجرد محاسبة للأفعال، بل غوص في بواطن النفس، بحثًا عن جذور النوايا، وانعكاسات الإيمان، وأصداء الضمير في قيعان القلب.

الاستبطان في القرآن الكريم

القرآن الكريم يعج بالآيات التي تدعو الإنسان إلى مراجعة ذاته، وإلى النظر في أعماق نفسه ومصيره:

﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة: آية 14-15]،

تأكيد قرآني أن الإنسان يعرف نفسه وزيف مبرراته حتى لو غلفها بالأعذار.

﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: آية 21]،

دعوة مباشرة للغوص في أغوار النفس، لا في خارجها فقط، بل في تضاعيف الذات.

الاستبطان في السنة النبوية

السنة النبوية تزخر بالدعوة إلى التأمل الذاتي. يقول رسول الله ﷺ:

“التفكر ساعة خير من عبادة سنة”«رواه ابن حبان، وهو حسن».

هذه الساعة ليست تأملًا في الكون فقط، بل تأمل في الذات: من أنا؟ لماذا أفعل؟ هل أنا صادق مع الله ومع نفسي؟

وأخرج الترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:

“الكَيِّسُ من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت”،

أي حاسبها وغاص في أعماقها، وأخضعها لميزان الحق قبل أن تخضعه الأيام لميزان الفضيحة.

النفس البشرية والاستبطان

النفس البشرية كما يصورها القرآن مزيجٌ معقدٌ من الفطرة والنوازع، فيها ميلٌ للخير وقابلية للسقوط في الظلام. وهذا التعقيد يجعل الاستبطان الداخلي ضرورة مستمرة، فالنفس لا تستقر على حال:

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: آية 7-8].

الاستبطان هو رحلة اكتشاف لملامح التقوى والفجور في الداخل، إنه مرآة الإنسان مع نفسه، حيث لا رقيب إلا الله.

كيف يؤثر الاستبطان على علاقتك بالآخرين؟

معرفة النفس طريق لمعرفة الآخرين. من يعرف ضعفه يدرك ضعف البشر، ومن يعرف ميله للخطأ يعذر أخطاء غيره. النبي ﷺ يقول:

"رحم الله امرأً عرف قدر نفسه”«رواه البيهقي».

فالمستبطن ذاته أكثر تواضعًا وأقرب للناس وأصفى قلبًا.

الاستبطان في كربلاء: الإمام الحسين نموذجًا

في يوم عاشوراء، جسّد الإمام الحسين أرقى صور الاستبطان الأخلاقي والوجودي. ثورته لم تكن سياسية فقط، بل شهادة ذاتية على أن الإنسان يُعرَّف بموقفه الداخلي أمام الحق.

عندما قال:

“هيهات منا الذلة”،

كان يعبر عن يقين استبطاني بأن الإنسان الحقيقي لا يساوم على كرامته أمام الله.

في خيمته ليلة عاشوراء، ناجى الإمام ربه، واستبطن مصيره، ورأى الموت سعادة لأنه بوابة الصدق مع الله.

الاستبطان في زمن الضجيج: عودة الروح إلى مقامها الأول

في هذا الزمن، حيث الأرواح مُستلبة والإنسان ظل باهت يركض خلف ذاته المفقودة، يصبح الاستبطان ضرورة وجودية لا ترفًا فكريًا. إنه رحلة من السطح إلى العمق، ومن الأقنعة إلى العري الصافي أمام الله.

الاستبطان هو العودة إلى ذلك الحوار الأول بين الإنسان وربه:

﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف: آية 172]

أن تستعيد العهد القديم وتكتشف أن رحلتك كلها ليست إلا محاولة للعودة إلى ذلك النقاء الأول.

الاستبطان: صلاة بغير ألفاظ

الاستبطان صلاة بلا ألفاظ، وبكاء بلا دموع، وعروج بلا جناحين.

هو أن ترى صورتك في مرآة الله، وتسمع الهمس الإلهي:

“أنا أنت.. وأنت أنت حين تكون صادقًا معي ومعك”.

هو أن تصعد إلى قمة ذاتك، ثم تلقي عنها أثقالها، وتقول:

“يا رب، هذا أنا.. كما خلقتني، وكما تحب أن تراني”.

في وهج هذا الاستبطان يولد الإنسان الجديد، الذي لا يخاف الناس لأن الله في قلبه، ولا يخاف الموت لأن الحق يسكنه، ولا يعبد صورته في مرايا الآخرين لأنه رأى وجهه في مرآة الله.

آخر النبض: الاستبطان - الطريق الأقصر إلى الله

الاستبطان هو إدراك أن أقصر الطرق إلى الله ليست في الطرقات، بل في أعماقك..

هناك، حيث لا أحد إلا أنت وهو.