آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:22 م

إعادة تعريف الإنسان من الناطقية إلى الأخلاقية

الشيخ زكي الميلاد * المجلة العربية

ما زال يتردد إلى اليوم تعريف الإنسان الذي وضعه في القرن الرابع قبل الميلاد الفيلسوف اليوناني أرسطو «384 - 322 ق. م» قائلاً: «إن الإنسان حيوان ناطق»، مستنداً في هذا التعريف إلى علم المنطق، مطبقاً عليه قاعدة الكليات الخمس، وهي: «الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام»، منتخباً منها ثلاث كليات هي: «الجنس والنوع والفصل»، مبيناً أن كلمة «حيوان» تشير إلى كلية الجنس، وكلمة «إنسان» تشير إلى كلية النوع، وكلمة «ناطق» تشير إلى كلية الفصل.

أراد أرسطو من هذا التعريف الوجيز والبسيط، واستناداً إلى الكليات الثلاث المذكورة، أن يكوِّن تعريفاً جامعاً مانعاً، يدخل فيه كل ما يصدق عليه ماهية الإنسان ليكون جامعاً، ويخرج منه كل ما لا يصدق عليه ماهية الإنسان ليكون مانعاً. أما الكليتان المتبقيتان وهما: الخاصة والعرض العام، فهما تضيفان إلى التعريف لكن من دون أن يتقوَّم بهما من ناحية التمايز الفاصل بين الإنسان والحيوان. فالخاصة يتميز بها الإنسان ومن مصاديقها ظاهرة الضحك، لكنها ليست فاصلاً رئيساً بين الإنسان والحيوان. وأما العرض العام فهو عرض وليس أصلاً، وعام وليس خاصاً، يراد به ما يكون عرضاً عاماً لجنس الحيوان شاملاً الإنسان وكائنات الحيوان، ومن أبرز مصاديقه ظاهرة النمو، فالإنسان يتصف بالنمو، وهكذا سائر الكائنات الحية بلا فرق بينها من هذه الناحية، بما يمثل عرضاً عاماً.

هذا التعريف صمد وبقي حاضراً، وتمكن من عبور عصور ما قبل الميلاد إلى عصور ما بعدها، ممتداً من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة، لم يندثر أو يتلاشى، على الرغم من تجدد الفلسفات، وتعاظم العلوم، وتراكم المعارف، وتعاقب الأجيال، وتواصل التجربة الإنسانية، كونه استند إلى علم قوامه الاستدلال والبرهان، ونعني به علم المنطق الذي أسسه أرسطو نفسه، وعد من أبدع ما أنجزه العقل اليوناني القديم.

لذا فإن هذا التعريف يعد من ثمرات علم المنطق، أي أنه تعريف له علم يستند إليه، ويرتكز عليه، ويتقوّم به، ويستقي منه قواعده وبراهينه، ولم يكن تعريفاً عادياً أو عابراً لا أسس له ولا أساس، أو تعريفاً غامضاً أو مبهماً لا وضوح فيه ولا بيان، أو تعريفاً هشاً أو هزيلاً لا قوة له ولا تماسك، وإنما هو تعريف منطقي يتخذ من علم المنطق أساساً وبرهاناً.

من قوة هذا التعريف وجاذبيته، فقد خضع إلى العديد من المناقشات والتحليلات، الموافقة والمخالفة، المصدقة والمشككة، المتقاربة والمتباعدة، حدث ذلك قديماً وحديثاً. كما خضع هذا التعريف إلى العديد من التشبيهات والمقايسات التي حاولت التشبه بهيئته اللفظية، على وزن من رأى أن الإنسان حيوان يتكلم، أشار إلى هذا القول المفكر المغربي الدكتور محمد عزيز الحبابي «1923 - 1993م»، مبرزاً خاصية اللغة عند الإنسان بوصفه الكائن الوحيد القادر على التكلم، إلى جانب من رأى أن الإنسان حيوان اجتماعي أو حيوان سياسي أو حيوان اقتصادي، إلى غير ذلك من تعريفات أخرى، تقايست مع تعريف أرسطو وتشبهت به شكلاً وصورة.

لا ريب أن أرسطو أقام هذا التعريف على أساس المقايسة الفارقة بين الإنسان والحيوان، بحثاً عن كلية الفصل بينهما، ووجدها متحددة في الناطقية، قاصداً بها القوة العاقلة أي القوة المفكرة والموجهة والمميزة. وهذا يعني أن وجود الحيوان في عالم الحياة ساعد الإنسان في تعريف ذاته، وأتاح له إمكانية مستمرة للنظر في هذه المقارنة المتغايرة بينهما، لكي يتعرف الإنسان بصورة مستمرة إلى ذاته. وهذه فائدة عظيمة كسبها الإنسان من وجود الحيوان في العالم الذي يسكنه ويعيش فيه.

ومن الأكيد لو أن هذا الحيوان لم يكن له وجود في عالمنا، لعرَّف الإنسان نفسه بطريقة مختلفة ومباينة كلياً لتعريف أرسطو، ولسقط هذا التعريف الأرسطي وفقد أصله وأساسه. وهذا هو وجه الملاحظة الأساس على تعريف أرسطو، لأنه عرف الإنسان ليس من جهة النظر إلى ذاته كياناً ووجوداً، وإنما من جهة النظر إلى غيره المغاير له. وكان من الأصح أن يُعرف الإنسان ذاتاً أولاً بما هو على حقيقته، ثم يُعرف بغيره مقارنة ومقايسة.

أما المتغير الجديد والخطير في النظر إلى الإنسان، فقد حدث في هذا العصر بتأثير التطورات المدهشة والمتعاظمة في مجالي العلوم والتكنولوجيا، وخصوصاً في نطاق تقنيات الذكاء الاصطناعي التي أنتجت ما عرف بالإنسان الآلة، الذي خرج من دائرة الخيال إلى دائرة الواقع، موصوفاً بالذكاء والذكاء الفائق أو الخارق، والذي لجأ إليه الإنسان متخذاً منه مرجعاً معلوماتياً وتطبيقياً وتوليدياً، وقد تعاظم تأثيره، وتصاعد خطره، وبات يهدد مصير الإنسان نفسه، خوفاً على وظائفه ومستقبله وحتى وجوده.

وبتأثير هذا المتغير الجديد والخطير كذلك، برزت قضية التناظر بين الإنسان والآلة، وحلت مكان القضية السابقة التي ناظرت من قبل بين الإنسان والحيوان، وذلك بعدما تكشفت هذه القضية إلى حد كبير، وأخذت مداها الزمني الطويل بحثاً وتحقيقاً. في المقابل أحاطت التعقيدات الشديدة بقضية التناظر بين الإنسان والإنسان الآلة، وأصبحت هذه القضية موضوعاً بحثياً حيوياً، تزايدت حوله الكتابات والدراسات على أقسامها وتراكمت، وما زالت تواصل تقدمها المدهش والسريع، وظهر لأول مرة مصطلح الإنسان الرقمي، الذي سيكون موضوعاً شاغلاً في حقل الدراسات الاجتماعية.

في قضية التناظر بين الإنسان والحيوان، برزت خاصية الناطقية، ويراد بها القوة العاقلة بالنسبة إلى الإنسان في مقابل بهيمية الحيوان. وفي قضية التناظر بين الإنسان والآلة ستكون الخاصية البارزة بالتأكيد من نوع مختلف ومتفارق كلياً عن الخاصية السابقة، ولا بد أن تتحدد في خاصية الأخلاقية، فهذه الخاصية لا يستطيع أحد التخلق بها اكتساباً، والبقاء عليها سلوكاً، والتأثير بها وجوداً، إلا الإنسان، وهي منبع الفضائل والشمائل الخيرة.

الأمر الذي يستدعي إعادة تعريف الإنسان من جديد، وسيكون أصح تعريف معياري له أنه كائن أخلاقي، ولديه هذا الاستعداد الفطري ليكون كائناً أخلاقياً، على قاعدة ما ينبغي أن يكون. بمعنى أن الإنسان لا يكون إنساناً حقيقياً إلا بالأخلاقية، وهذه هي جوهر حقيقته، وخاصيته التي يتفارق بها عن باقي الكائنات الأخرى.

من هنا تتأكد حاجة العودة من جديد إلى الأخلاق في عصر الذكاء الاصطناعي الذي فتح أوسع حديث إشكالي عن الإنسان وأعاد من جديد النظر في ماهيته وذاتيته، مصحوباً هذه المرة ببعض المخاطر والتحديات القلقة. وكذا الاهتمام بإحياء علم الأخلاق، وضرورة أن نجعل من الإنسان الأخلاقي مفهوماً دراسياً، وموضوعاً مركزياً في دائرة البحث الفكري والأخلاقي، دفاعاً عن إنسانية الإنسان.

كاتب وباحث سعودي «القطيف»