الحبل السري ينقطع.. لكن حب الأم لا ينتهي
هناك علاقات تنشأ وتزول، وأخرى تقوى وتضعف، إلا أن علاقة الأم بطفلها تظل استثناءً، فهي رابطة تتجاوز الزمن والمكان، تبدأ قبل أن يبصر الطفل النور وتستمر حتى آخر العمر. إنها علاقة لا يحكمها عمر أو مرحلة حياتية، بل تنمو مع الأيام، وتتطور عبر الزمن دون أن تضعف أو تتلاشى. فالأم ليست فقط من تمنح الحياة، بل هي من تمنح الروح، وتبذل العمر، وتظل سندًا لا يميل وقلبًا لا يتغير.
منذ اللحظة الأولى للحياة، يتصل الطفل بأمه عبر الحبل السري، ذلك الشريان الحيوي الذي يمده بالغذاء والأكسجين، ويضمن استمرارية نموه داخل الرحم. وعند الولادة، يتم قطع هذا الحبل إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من حياة الطفل، حيث يبدأ خطواته الأولى نحو الاستقلال. لكن هذا الفصل يظل رمزيًا، فالرابط الحقيقي بين الأم وطفلها لا ينتهي بمجرد قطع الحبل السري، بل يتحول إلى علاقة أعمق، تبنى على الحب والرعاية والارتباط العاطفي والروحي الذي لا ينقطع. وقد أشار القرآن الكريم إلى عظمة هذه العلاقة وإلى ما تتحمله الأم من مشقة في سبيل أبنائها، حيث يقول الله تعالى:
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: آية 14].
إنها رحلة تبدأ منذ الحمل، بكل ما تحمله من معاناة وتضحيات، ولا تنتهي حتى بعد أن يكبر الأبناء ويستقلوا في حياتهم. فالأمومة ليست مجرد مرحلة، بل إحساس دائم ومسؤولية ممتدة، لا تعرف النهاية، لأنها حب يتجذر في الروح ويترسخ بالزمن، حب لا يخضع لشروط أو مقاييس، ولا ينتظر مقابلاً.
ومهما بلغ الابن من العمر، ومهما اشتد عوده واستقل بحياته، يظل في نظر أمه ذلك الطفل الذي يحتاج إلى رعايتها واهتمامها. فمشاعرها لا تخضع لمقاييس الزمن، ولا تتأثر بالعمر أو المسافات. فسُئلت إحدى الأمهات ذات يوم:“من أحب أبنائك إليكِ؟”، فأجابت بحكمة نابعة من قلب الأمومة:
“الغائب حتى يعود، والمريض حتى يُشفى، والصغير حتى يكبر.”
هذه الكلمات تلخص جوهر العلاقة بين الأم وأبنائها؛ فهي تعيش تفاصيل حياتهم، تتابع أخبارهم، تحمل همومهم، وتظل عيناها ساهرة على سعادتهم، حتى وإن لم يطلبوا منها ذلك. الأم لا تعرف الراحة طالما أن أحد أبنائها يواجه صعوبة، ولا تنعم بالسعادة الكاملة إلا عندما تراهم جميعًا بخير، لأنهم ليسوا مجرد أبناء، بل امتداد لروحها وقطعة من قلبها.
سر هذا الحب يكمن في طبيعته الفطرية التي لا تحكمها المصلحة، ولا تؤثر فيها تقلبات الزمن. فالأم تحمل طفلها في أحشائها قبل أن تراه بعينها، تشعر بنبضه قبل أن تسمع صوته، وتلمس روحه قبل أن تلمس يديه. إنه حب يبدأ بالصبر، ويتغذى بالتضحية، ويترسخ بالزمن، ولا يتغير مهما تغيرت الظروف أو كبر الأبناء. حتى لو تجاوز الابن مرحلة الطفولة وأصبح ناضجًا مسؤولًا، يظل في نظر أمه ذلك الصغير الذي يحتاج إلى دعمها واهتمامها، فالأم ترى في ابنها امتدادًا لحياتها، نجاحه نجاحها، وسعادته سعادتها، وألمه ألمها.
وما يفرح قلب الأم حقًا ليس بالضرورة الهدايا الثمينة أو العبارات المنمقة، بل لحظات بسيطة تحمل في طياتها مشاعر صادقة. فرحتها تكمن في رؤية أبنائها بصحة وعافية، وفي أن يكونوا سعداء ومستقرين، وفي نجاحهم في حياتهم، سواء كان ذلك في الدراسة، العمل، أو تكوين أسرة صالحة. تسعد حين تراهم يتحلون بالقيم التي زرعتها فيهم، وحين يبرونها ويقدرون تضحياتها، وحين يشعرونها أنها لا تزال جزءًا مهمًا في حياتهم مهما كبرت أعمارهم أو ازدادت انشغالاتهم. يكفيها أن تسمع صوتهم، أن يشاركوها تفاصيل يومهم، أن تشعر أنها لا تزال حضنهم الأول وملجأهم الأخير.
وقد يُقطع الحبل السري عند الولادة، لكن الرابط الذي يربط الأم بطفلها يظل أقوى من أي شيء، حبٌ لا ينقطع، وعاطفة لا تضعف، وارتباط لا تقدر أي قوة في العالم على فصله. فالأم ليست مجرد قلب ينبض في حياة أبنائها، بل هي روح خالدة في ذكرياتهم، تنبض في أعماقهم، وترافقهم في كل خطوة حتى بعد رحيلها.
أمي الحبيبة،
كيف يمكن للكلمات أن تصف حبًا يسكن أعماقي منذ ولادتي؟ كيف أجد عبارات تليق بعظمتك، بفيض حنانك، وبكل لحظة احتضنتِ فيها ضعفي وقوتي على حد سواء؟ كنتِ دائمًا تقولين لي:“ستكبر يومًا وتصبح مسؤولًا عن نفسك”، وها أنا قد كبرت، لكنني أدركت الآن أنني لم ولن أستغني عنكِ أبدًا. فأنا مهما بلغت من العمر، سأظل طفلَكِ الذي يشتاق لحضنكِ، ويبتهج بصوتكِ، ويشعر بالأمان حين تضعين يدكِ على رأسي.
أمي، وسط زحام الحياة وضجيج الأيام، قد تبعدني المشاغل، لكن روحي تبقى معكِ، وقلبي لا يزال معلقًا بكِ كما كنتُ صغيرًا أمسك يدكِ خوفًا من الضياع. أحبكِ بكل تفاصيلكِ، بحنانكِ الذي لا يجف، وبعطائكِ الذي لا يتعب، وبحبكِ الذي لم يخذلني يومًا. أمي، أنتِ الحياة، أنتِ الأمان، أنتِ الحب الذي لا يعوض، وأنتِ أغلى من كل شيء في هذا العالم.
كم مرة نظرت إليكِ بصمت، وكأنني أحاول أن أنقش ملامحكِ في أعماق قلبي، أن أحتفظ بصوتكِ في ذاكرتي، أن أخزن كل لحظة معكِ وكأنني أخشى أن يفرقنا الزمن يومًا. كيف يمكن للعالم أن يكون جميلًا وأنتِ لستِ فيه؟ كيف أعيش يومًا لا تبدأه دعواتكِ، ولا يطمئن فيه قلبي بكلماتكِ؟
أحبكِ يا أمي، بكل ما في قلبي من حب، وبكل ما في روحي من امتنان، وبكل ما في عمري من لحظات. أعدكِ أن أبقى ابنكِ البار، أن أكون بجانبكِ كما كنتِ دائمًا بجانبي، وأن أرد بعضًا من جميلكِ الذي لن أستطيع أبدًا أن أوفيه حقه. دمتِ لي نورًا يضيء حياتي، وسندًا لا يميل، وحبًا لا يموت.
وإن كان لكل إنسان وطن يعود إليه، فالأم هي الوطن الأول والأخير، والملاذ الذي لا يُستبدل ولا يُعوض، والحب الذي لا يعرف الفناء.