آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

الوقت رصيدك الأغلى فكيف تديره

يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: إن نهضة أي أمة من الأمم مرهون باجتماع مجموعة من العوامل منها الإنسان، والموارد، والوقت. ولعل حركة التاريخ وسير الأقوام والحضارات السابقة تؤكد أن مقياس تقدم الأمم وازدهار حضارتها ونهضتها هو حُسن استغلالها لوقت أفرادها، وحُسن إدارتهم له. وإن المهام العظام يمكن إنجازها حين يستغل الإنسانُ وقتهُ بكفاءة «انتهى كلام المفكر الجزائري» وحينما تقول أنت ليس لدي وقت!! فإنك تعني أن لديك شيئا آخر أهم منه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا.

ما هو الشيء الأهم أو الأغلى قيمة من الوقت؟! ولماذا يُعتبر كالثروة أو كالسيف أو ك..., وكيف يمكننا مواجهته واستثماره وإدارته بفعالية؟

لا يختلف اثنان على أن الوقت هو أغلى ما يملك الإنسان، وذلك لأنه المورد الوحيد الذي لا يمكن استعادته أو تعويضه بمجرد أن يمضي. فكل لحظة تمر تخرج من نطاق السيطرة إلى الأبد، ولا يمكن استرجاعها مهما كانت المحاولات، فالإنسان قد يخسر أمواله، ويكسبها من جديد، وقد يفقد ممتلكاته، ويعوضها بوسائل أخرى، ولكن كل ثانية تمر من عمره لا يمكن استعادتها أو تعويضها فهي جزء من حياته التي تنقص ولا تزيد، وما أروع من قال ”إن الذي لا يُحسن إدارة وقته، لا يستطيع إدارة ذاته، ومن لا يحسن إدارة ذاته لا يستطيع إدارة الحياة من حوله“ أننا قد خُلقنا في هذه الحياة لسبب حكيم وهو الاختبار والابتلاء لقوله تعالى ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: آية 1,2] «صدق الله العلي العظيم»

ولا أظن أن أحدًا تغيب عنه فكرة أنه مسؤول عن حياته ووقته وأعماله وخياراته، مصداقًا لقول رسول الله ﷺ ”لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به“.

الوقت كالثروة

كما أن المال يُعتبر عنصرًا أساسيًا لتحقيق الأهداف وتحسين جودة الحياة، فإن الوقت هو رأس المال الحقيقي الذي يحدد مدى نجاح الإنسان وتقدمه، وكما أن الثروة تُهدر بالإسراف وسوء التدبير، حيثُ يُضيع البعض وقتهم في أمور لا تعود بالنفع عليهم، بينما يدرك الناجحون أن كل دقيقة تُستثمر بحكمة تثمر مستقبلًا أكثر إشراقًا. ولذلك قالوا بأن الوقت هو الثروة التي لا تُعوض، ومن يحسن استغلالها يجني أرباحا تفوق المال ذاته، وعلى سبيل المثال لك أن تتخيل ”أن شخصين يعملان في نفس الوظيفة براتب متواضع. الأول يقضي وقته بعد العمل في مشاهدة التلفاز والتسلية وبتصفح مواقع التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك طوال اليوم، بينما الثاني يستثمر وقته في تعلم مهارات جديدة مثل دورات في الحاسب الآلي أو تطوير الذات وما شابه، وبعد سنوات يبقى الأول في وظيفته دون أي تغير، بينما يحصل الثاني على ترقية أو فرصة عمل أفضل؛ بسبب مهاراته الجديدة“ فالفرق لم يكن في الظروف، بل في كيفية استغلال الوقت كأصل ثمين لتحقيق مستقبل أفضل.

الوقت كالسيف

كما أن السيف سريعُ في مروره حاسم في أثره، فإن الوقت كذلك يمر بسرعة ولا يعود ومن لم يحسن استغلاله، فقد خسر فرصة لا تعوض، ومثلما يُستخدم السيف بحكمة لتحقيق النصر ينبغي للإنسان أن يُحسن إدارة وقته ليحقق أهدافه قبل فوات الأوان، وكما أن السيف لا يُرفع إلا عند الحاجة ليحسم الموقف في لحظة فاصلة، فإن الوقت يحتاج إلى وعي وإدراك لتوظيفه فيما ينفع، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن ينشغل بصغائر الأمور، ويترك العظائم منها، فالأيام تمضي والأعوام تتوالى، ولا ينتظر الزمن أحد، ومن أضاع لحظاته في التسويف والكسل وجد نفسه في آخر المطاف بلا إنجاز يُذكر ولا أثر يُخلد، ولذلك من أدرك قيمة الوقت كان سيد حياته، ولك أن تتأمل الفرق بين طالبين التحقا بنفس التخصص الجامعي وبدءَا الدراسة في نفس السنة، الطالب الأول يدرك أهمية الوقت منذ البداية، فيضع جدولا منظمًا لدراسته، ويخصص وقتا للمراجعة، ويشارك في الأنشطة العلمية وما إلى ذلك، والطالب الثاني يتهاون في إدارة وقته، ويؤجل الدراسة حتى الأيام الأخيرة قبل الامتحانات، ليجد في الأخير صعوبة في الحصول على فرص جيدة بسبب تدني معدله الأكاديمي مما يدل على أن استثمار الوقت بذكاء يؤدي إلى النجاح الأكاديمي بينما التهاون والتسويف يؤديان إلى الفشل أو ضياع الفرص المستقبلية.

الوقت القوة التي لا تُقهر والعدو الذي لا يُهزم

الوقت ليس مجرد تتابعٍ للأيام والليال كما يُخيل للبعض، بل هو العنصر الوحيد الذي يحدد مصير الإنسان بلا استثناء، إنه الحكم العادل الذي لا يُجامل أحد، فيُعطي كل شخص الفرصة ذاتها. فأما أن يستثمرها في بناء مستقبله، أو يضيعها في غياهب التسويف والكسل، إنه بحق القوة التي لا تُقهر؛ لأنه لا شيء يستطيع إيقافه، والعدو الذي لا يُهزم؛ لأنه لا يعود إلى الوراء، فمن يُدرك قيمته، ويتعلم فن السيطرة عليه يملك مفتاح الإنجاز والتأثير، ومن يستهين به يجد نفسه في سباق خاسر مع نفسه ومع الآخرين، وأن النجاح ليس وليد الحظ كما يقولون وإنما وليد استثمار الوقت، واستغلاله، ومن يملك زمام لحظاته يمتلك زمام حياته، فهو الشيء الوحيد الذي نملكه جميعا، ولكن نستخدمه بطرق مختلفة، وكما قال الشاعر المعروف أحمد شوقي ”دقاتُ قلب المرءِ قائلةُ لهُ إن الحياة دقائقُ وثواني فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكرُ للإنسان عمرُ ثاني“ وقد يسأل سائل هل نحن نقتل الوقت عندما نقضيه في أنشطة غير منتجة، أو في الراحة أو الترفيه أم أن الراحة والترفيه جزء من إدارته، وما هي أبرز مضيعات الوقت؟

إنني أعتقد أن قتل الوقت جريمة غير عادية، بل هو اغتيال متعمد؛ لأنه يمثل إهدارًا لأثمن وأغلى مورد يملكه الإنسان وبفقده يفقد الإنسان فرص التطور والإنجاز، ويتعطل عن تحقيق أهدافه الذاتية والمستقبلية، وإذا كان لزاما على المرء أن يقتل الوقت فلماذا لا يقتله استغلالًا؟

وبالعودة إلى السؤال، فقد يعتقد البعض أن قضاء الوقت في أنشطة غير منتجة مثل الراحة أو الترفيه هو إهدار للوقت أو قتله خاصة إذا لم يكن هناك ناتج ملموس مباشر من هذه الأنشطة، ولكنني أرى أن الراحة والترفيه المخطط والمدروس هو جزء من الإدارة الذكية للوقت؛ لأنه يساهم في استعادة النشاط الذهني والجسدي، ويحسن التركيز والإبداع، ويقلل من مستويات التوتر والإجهاد، وهذا ما أشارت إليه الدراسة من جامعة ستانفورد التي تقول إن الإفراط في العمل دون فترات راحة يقلل من الإنتاجية، بينما تأخذ فترات الراحة المدروسة دورا في تحسين الأداء والقدرة على اتخاذ القرارات الفعالة، وفي دراسة للمركز الوطني للصحة العقلية في الولايات المتحدة 2020 م وتقرير آخر لمنظمة العمل الدولية يؤكدون على أن الأنشطة الترفيهية تساهم في تحسين الصحة النفسية والأداء الوظيفي، وفي تقليل معدل الأخطاء المهنية بنسبة تصل إلى 20%

مضيعات الوقت عادة تعرقل النجاح

كلنا يضيع بعض الوقت فهي عادة إنسانية طبيعية متكررة تنبع من الحاجة إلى الراحة أو الترفيه، وأحيانا بسبب غياب الحافز أو سوء إدارة الوقت، أو بسبب كثرة الملهيات مثل وسائل التواصل الاجتماعي أو بسبب الإرهاق الذهني والجسدي، ولكن غالبا ما تنبع من مصدرين أحدهما هو البيئة المحيطة والآخر هو نفسك أنت، فمثلًا من المضايقات المحيطة بك: الزوار الذين يأتون إليك بدون موعد سابق، والمكالمات الهاتفية الكثيرة، والاجتماعات غير المجدولة والانتظار الطويل والروتين والأعمال الغير منظمة وما إلى ذلك.

ومن أمثلة مضايقات الوقت الذاتية: الافتقار إلى التخطيط، والافتقار إلى التفويض لبعض المسؤوليات والأعمال وعادة التأجيل والتسويف وعدم القدرة على قول ”لا“ لبعض الأعمال وكثرة الكلام إلى حد الثرثرة وحب الجدال والمناقشات البيزنطية «المناقشات غير المجدية التي تستمر دون التوصل إلى حلول أو نتائج عملية» وما شابه ذلك.

الإدارة والاستثمار هي الحل

أعتقد أن الأمور التي تقدم ذكرها تبدو مألوفة وشائعة والكل يمر بها، بل ويعاني منها باستمرار والحل الوحيد هو في الإدارة الصحيحة للوقت، ولكن السؤال الذي ننتظر الإجابة عليه هو كيف ندير وقتنا بشكل صحيح وفاعل؟

إنني أعتقد جازمًا أن إدارة الوقت قضية ذاتية تعتمد على ظروفك أنت وطبيعتك، ولكن عليك أن تغير بعض العادات القديمة التي ألفتها، وإن أخذت منك وقتا محددًا ومجهود كبيرًا.

وبالعودة إلى السؤال عن إدارة الوقت بفاعلية يعني تحقيق أقصى استفادة من يومك عبر التخطيط والتنظيم وتحديد الأولويات، وفيما يلي الخطوات العملية لإدارة وقتك بفعالية:

أولًا: بتحديد الأهداف على أساس الأولويات والأسبقيات، والأعمال في العادة يمكن تقسيمها حسب جدول أيزنهاور إلى أعمال هامة وعاجلة مثل الأزمات الطارئة والمهام التي اقترب موعدها، وهذه تأخذ الأولوية، ولا يمكن تفويضها.

الأعمال الهامة وغير العاجلة مثل إعداد الخطط والتدريب والنشاطات الرئيسية، وهذه يمكن تفويض أجزاء منها.

والأعمال غير الهامة والعاجلة مثل المكالمات الهاتفية والزيارات، وهذه من الأفضل تفويضها، والأعمال غير الهامة وغير العاجلة مثل الأمور الروتينية والأشياء المتكررة والقرارات البسيطة وهذه يمكن تفويضها، وكما يقول ”بيتر دركر“ الناجحون لا يدورون حول المشكلات، بل حول الفرص " وإذا كنا لا نستطيع أن نتجاهل الأنشطة الهامة والعاجلة، فإننا يجب أن نجعلها تنكمش إلى أقصى حد ممكن تجنبا للوقوع في الأزمات

ثانيًا: تجنب مضيعات ومشتتات الوقت قدر الإمكان مثل وقف إشعارات الهاتف أثناء العمل، وتحديد وقت مخصص لوسائل التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني، واستخدام بعض التطبيقات التي تختصر عليك الوقت.

ثالثًا: تعلم فن التفويض وعدم محاولة إنجاز كل شيء بنفسك مثل تحديد المهام التي يمكنك تفويضها للآخرين أو المهام الروتينية التي يُسمح لك بتفويضها.

وفي نهاية المطاف، يبقى الوقت هو الثروة الحقيقية التي لا تعوض والرصيد الذي إن أحسنت إدارته جنيت منه أعظم الأرباح، وإن أهدرته خسرت فرصا لا تُقدر بثمن، وأن إدارتك للوقت ليست مجرد مهارة، بل هي فلسفة حياة تحدد مدى نجاحك وإنتاجيتك فالتخطيط وتحديد الأولويات واستثمار اللحظات فيما يُضيف قيمة إلى حياتك كلها مفاتيح لصناعة مستقبل أكثر إشراقًا، لا سيما ونحنُ مقبلون على شهر رمضان المبارك الذي هو عند الله من أفضل الشهور وأيامه من أفضل الأيام ولياليه من أفضل الليالي وساعاته من أفضل الساعات

وكل عام وأنتم بخير ورمضان كريم