وضوح الروح بين الحب والقناعة: قراءة في معاني الإدراك والثقة
ليس في الناس جميعًا من يُقرأ ككتابٍ مفتوح، لكن هناك من تُقرأ معالمه بوضوح الشمس في رابعة النهار، فلا يحتاج إلى تفسيرٍ أو تحليلٍ عميق، لأن روحه ناصعة، وفكره جليّ، وسلوكه يُغني عن أيّ تأويل. إن معرفة هؤلاء لا تكون نتاج بحثٍ مضنٍ أو تقصٍ متأنٍ، بل هي أشبه بنورٍ ينكشف للعين بمجرد اللقاء، فتألفه النفس قبل أن تتمعن فيه العقول، ويصدقه القلب قبل أن تزن صدقه المعايير العقلية.
إنّ من يؤمن بك دينًا وتربيةً وخلقًا وسلوكًا لا يحتاج إلى شروحاتٍ مستفيضة، ولا إلى شهادات تزكية منك أو من غيرك. إنه يراك كما يرى الإنسان ظله، كما يعرف البحر عمقه دون أن يحتاج إلى الغوص في كل موجةٍ من أمواجه. فأنت بالنسبة له لست موضوعًا للنقاش ولا معادلةً تحتاج إلى برهان، بل حقيقة قائمة بذاتها، تتجلّى بلا تكلف، كوضوح الفجر، وكبزوغ القمر في ليلةٍ صافية.
وإذا أردنا أن نبحث عن أساس هذه الثقة المطلقة، سنجدها تنبع من عاملين جوهريين: الحب والقناعة. الحب يختصر المسافات، ويهدم الحواجز، ويفتح منافذ الروح على مصراعيها. وحين تُحب شخصًا بحق، لا تحتاج إلى تبرير إيمانك به، لأنك لا تؤمن به استنادًا إلى تفاصيله الصغيرة، بل إلى كليّته الجامعة التي تتجلى في كل نظرةٍ، وكل كلمةٍ، وكل موقف.
أما القناعة، فهي الوجه الآخر لهذه الثقة، لأنها تقوم على تطابق المعتقدات، وانسجام المبادئ، وتلاقح العقول على أسسٍ ثابتة. من يقتنع بك، لا يسائلك عن كل جزئية، ولا يُدقق في كل حرف، بل يراك ضمن إطارٍ شاملٍ، ويُدرك أنك امتدادٌ لأفكاره ورؤاه، فيطمئن إليك كما يطمئن المسافر إلى الطريق الذي اختاره بعد طول تأملٍ واقتناع.
لكن ماذا لو لم يجد المرء هذه الثقة المطلقة؟ ماذا لو وجد نفسه مضطرًا لتبرير ما يفترض أن يكون واضحًا، ولشرح ما لا يحتاج إلى بيان؟ حينها، لا بد أن يدرك أن المشكلة ليست فيه، بل في الطرف الآخر.
فالذي يحتاج إلى تفكيك كلماتك كأنه يُحلل نصًا غامضًا، والذي يشكك في مواقفك كما لو كان يتعامل مع مجهولٍ، والذي يطيل الاستفهام حيث يُفترض اليقين، ليس بالضرورة يجهلك، لكنه قد يكون متجاهلًا لحقيقتك، إما جهلًا قاصرًا نابعًا من قلة المعرفة، وإما جهلًا متعمدًا مردّه الإنكار والجحود.
وكما قال الله تعالى عن أولئك الذين أنكرت قلوبهم الحق رغم يقينها به: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: آية 14]، فإن الجحود ليس مجرد غفلة، بل هو قرارٌ بعدم الاعتراف، حتى لو كان الاعتراف هو الطريق الوحيد إلى الحق.
انظر إلى الأنبياء والمصلحين، كم كان وضوح رسالتهم جليًّا؟ ومع ذلك، كم اضطروا إلى تكرار البينات لمن لا يريد أن يفهم؟ موسى، وقد حمل الآيات الباهرات، خاطبه قومه بالشكوك. وعيسى، الذي كان كلمته سلامًا ورحمةً، لم يسلم من التشكيك والإنكار. ومحمدٌ، الذي نطقت سيرته قبل كلماته بصدقه وأمانته، واجهه قومه بالجحود والجدال الذي لا غاية منه سوى طمس ما لا يطمس.
وكذلك الأمر في الحياة اليومية، كم من إنسانٍ يثبت سلوكه نُبله واستقامته، لكن بعضهم يصرّ على استجوابه كأن كل أفعاله تحتاج إلى تأويل! وكم من روحٍ نقيةٍ تعرفها فتثق بها منذ اللحظة الأولى، بينما آخرون يتعاملون معها بريبةٍ، ليس لعيبٍ فيها، بل لمرضٍ في نفوسهم.
الوضوح اختبار، ليس لك، ولكن لمن يراك. فهناك من يرى الحق فيك فيتّبعه، وهناك من يراه فينكره، وهناك من لم يره بعد لكنه يبحث عنه بصدق. فلا تحزن إن اضطررت إلى شرح ما لا يحتاج إلى شرح، ولا تألم إن وجدت من يجحد بك رغم أن يقينه فيك ثابتٌ. فإنما النفوس مرايا، وما تعكسه من صورتك ليس دائمًا صورتك الحقيقية، بل صورتها هي.