أخلاقيات: لا تسخر، لا تكفر بنعمة، لا تتكبر
الأيام دُوَل؛ إن أنصفتك يومًا، فلك، وإن ظلمتك يومًا، فعليك. فأحسن عاقبتك، وكن على حذر قبل أن تقع. لا يأخذك العُجب والغرور والكبر حتى ترى لنفسك البقاء والغِنى والجاه بحرية مطلقة دون قيد أو شاهد أو رقيب. انظر عن يمينك وشمالك، لا تغض الطرف، لا تُعرض بوجهك، لا تتغافل، تجد فقيرًا يستجدي، كانت حساباته البنكية بالملايين، فقدها في ساعة، قدرًا أو تلاعبًا،“تبذيرًا وسوء إدارة”. ومريضًا على سرير في إحدى المصحات يبحث عن علاج لم يجده، وكان قبلها يتسلق الجبال، يخوض البحار، وينافس في رفع الأثقال. وكم من مُطارد من بلد إلى بلد، بالأمس علا وتجبر، في غرورٍ يطأ الرقاب، وينظر إلى من حوله بدونية، تخفق النعال خلفه، يُصعِّر خدَّه، لا يُسلِّم ولا يرد سلامًا. وأنت لست عنهم ببعيد؛ هي الدنيا وما تفعل.
أتعرض هنا لمفردات العنوان، مستشهدًا بكل واحدة بآية من“القرآن الكريم”لأخذ العبرة والعظة وعدم التجاهل، وحتى لا نأمن مكرَ الدهر على أنفسنا، فإن فعلنا ما فعلوا أصابنا ما أصابهم، وربما أشد، فالمصير واحد والعاقبة مخاض العمل.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: آية 14].
نوح بعثه الله نبيًا رحمةً لعباده، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، واعظًا ناصحًا مرشدًا، يدعوهم ليسعدوا في دنياهم وأخراهم. فكذبوا بدعوته، وسخروا منه ومن رسالته، وسمَّوه مجنونًا، ورموه بالقاذورات، وأغْرَوا سفهاءهم بإهانته، وقلَّلوا من مكانته، وازدادوا في طغيانهم، خاصة عندما شرع في صنع الفلك كما أُمِر. فلما أكملها، نادى من آمنوا ليركبوها، ولعلمه أنها الوسيلة الوحيدة للنجاة، أخذته الشفقة على ابنه الذي لم يؤمن، فناداه ليرافقهم، فأبى قائلًا:“سآوي إلى جبل يعصمني من الماء”، ظنًّا أنه حصن منيع، ولا تعنيه دعوة أبيه بشيء، فلم ينفعه ذلك، وخاب ما أمل، فكان من المغرقين. إنها الحقيقة: من أطاعه وركب نجا، ومن تخلف عنه هلك، ولا عاصم من أمر الله. غرق الساخرون ونجا المؤمنون، المسخور منهم، كما قال تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت: آية 15].
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: آية 112].
كفروا بأنعم الله سبحانه، فأذاقهم لباس الجوع حتى أكلوا الجيف والكلاب الميتة، وأرغفة الخبز المتراكمة التي كانوا ينظفون بها أوساخ أولادهم. وأعقبهم الخوف بعد الاطمئنان،“وما كان يغار عليهم من قبل”، وذلك جزاء صنيعهم. ولو حافظوا على ما أُعطوا، لزادهم الله من فضله. إذاً، علينا أن نتعلم من هذه المواقف، ونختار طيب الأفعال، ولا ننسى شكر المنعِم، لأننا سوف نُعامل بأعمالنا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، والكل يحصد ما زرع، يأكل رطبًا جنيًّا أو يستقي ماءً حميمًا، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: آية 7].
قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: آية 76].
بغى عليهم، أي“تكبَّر وظلم”، ومع تذكيره بنعم الله عليه، إلا أنه أنكر ونسب ملكه لنفسه وحده، دون أن يعترف بتدخل خالقه في ذلك. فكانت نهايته أن خُسف به وبداره الأرض، وما استطاع أن ينتصر أو ينصره أحد،“فخسر الدنيا”. ولو تواضع وأحسن، لزيد من فضله، وما عُوقب. هكذا خاتمة المتكبر الجاحد. أما الآخرة، فليس له فيها نصيب، كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: آية 83].
المتكبرون إخوان الشياطين، يغشاهم الذل في القيامة من كل مكان، وتطؤهم الخلائق بأقدامها.
الاحترام، والشكر، والتواضع؛ أخلاقيات ومبادئ، وإن لم نُؤمر بها ونُوجَّه إليها، توجبها عقولنا علينا، وتحُثّ عليها المروءة، وتدعو إليها الفطرة السليمة.