آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

المتقاعدون بين الفراغ والإنجاز

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

ينظر العديد من المتقاعدين أو المتقاعدات إلى أنفسهم بأنهم أشخاص لم يعودوا قادرين أو مؤهلين للعطاء بعد بلوغهم سن التقاعد لأنهم يعتقدون أن دورهم الفعال والمثمر في الفضاء المهني قد انتهى، وكأن التقاعد يعني نهاية لمسيرتهم المهنية أو طي لصفحة خُبراتهم وإنجازاتهم دون استثمار في مجالات جديدة تتيح لهم الاستمرار في العطاء والاستفادة من تجاربهم الطويلة.

الأمر الذي يعطل الاستفادة من الكفاءات من ذوي الخبرات والتجارب الإدارية بعد إحالتها للتقاعد، لا سيما من كبار الموظفين والمديرين التنفيذيين في إدارات الأعمال والأساتذة المدراء في المدارس والمعاهد والجامعات من أصحاب التخصصات الإدارية والفنية والكوادر عالية التأهيل، مما يحرم الوطن من توظيف ما يحملونه من تجارب إدارية عريضة وخبرات عملية مهمة في مسارات التنمية التي تمكنهم من تقديم الاستشارات والمشاركة في الأنشطة التطوعية أو حتى البدء في المشاريع الجديدة التي تتناسب مع مهاراتهم واهتماماتهم.

فالعطاء كما يؤكد العقلاء والحكماء لا يرتبط بعمر محدد أو بسن معين، بل هو نابع من طبيعة الإنسان وقيمهُ الإنسانية، وقد يكون ماديًا أو معنويًا كالكلمة الطيبة أو الوقت، فكم من كبير في السن يظلُ متشبثًا بروح النشاط والبذل والعطاء حتى آخر أيامه، ولكننا نسمع عن العكس حيثُ يعتقد البعض أن بتقاعُدِهِم موعدًا للتوقف عن العطاء أو موعدًا لإنهاء الحياة أو ما يسمونه اصطلاحًا تشاؤميا «مت وأنت قاعد» واختصارها متقاعد، فيشعُر هؤلاء المديرون أو القائدُون في القطاعين الحكومي والخاص معا بعد فقدانهم للسلطة أو للمنصب أو للنفوذ بالانعزال والانكفاء على ذواتهم، بل بالإحباط وفقدان الثقة بالنفس فلا يُرى البعضُ منهم إلا في تجمعات محدودة أو مناسبات رسمية أو مناسبات كالأعراس أو الأتراح على عكس ما يحدث في خارج الموروث العربي حيث يحتفون بتقاعدهم، ويسعدون بحصولهم على الحياة الأفضل والأكثر استقرارًا.

ففي اليابان مثلا يسعد المديرون اليابانيون لتقاعدهم من الوظيفة الحكومية؛ لأنهم يسمونها بانتقالهم للعمل في القطاع الخاص ”بالانتقال إلى النعيم“ لأن هناك حياة أجمل وأكثر نشاطًا وأكثر شهرة في انتقالهم للعمل في هذه المعاهد، وينطبق ذلك على المديرين في القطاع الخاص بانتقالهم للعمل كمستشارين لشركات ومؤسسات شقيقة بعد تقاعدهم.

أما في بعض الدول كالولايات المتحدة وأوروبا وغيرها فلديهم خيارات متعددة تختلف حسب وضعهم المالي والصحي واهتماماتهم الشخصية كالعودة إلى سوق العمل الجزئي أو السفر والاستمتاع بالحياة أو الانخراط في الأنشطة التطوعية أو متابعة التعليم والتعلم المستمر أو الانخراط في الأنشطة الاجتماعية أو ممارسة الأنشطة الترفيهية والعناية بالصحة البدنية.

فالتقاعد بالنسبة لهم مرحلة انتقالية أو بداية لمرحلة جديدة مليئة بالفرص والإنجازات وتحقيق الطموحات المؤجلة؛ مما يمنحهم شعورًا بالرضا والتجدد، وليس مرحلة للركود أو العزلة.

والسؤال المركزي الذي يفرض نفسه هنا ماذا هو تعريف التقاعد، وكيف نفرّق بينه وبين المعرفة الإدارية والخبرة الإدارية، والتجربة الشخصية؟

وما هي المعايير التي يتم على ضوئها تحديد قيمة التجربة الذاتية والخبرة الإدارية، ولماذا لا يدّون المتقاعدون أو المتقاعدات تجاربهم أو مذكراتهم أو سيرهم الذاتية؟

التقاعد:

هو عبارة عن حالة خروج الفرد من سوق العمل بعد بلوغ سن معين أو تحقيق شروط محددة تؤهله للحصول على معاش تقاعدي، وكما تقول منظمة العمل الدولية ILO إن التقاعد هو: المرحلة التي يتم فيها إنهاء نشاط العمل النظامي للفرد بناء على شروط عمرية أو عدد سنوات خدمة معينة؛ مما يمنحه الحق في الاستفادة من استحقاقات التأمينات الاجتماعية لضمان الدخل المعيشي في مرحلة ما بعد العمل، وليس كما يعتقد البعض بأنه نهاية الإنتاجية أو التوقف عن العطاء.

المعرفة الإدارية:

وهي حجر الأساس في نجاح المنظمات حيث تمثل مزيجًا من المفاهيم والنظريات والممارسات التي تساعد القادة والمديرين على اتخاذ القرارات الفعالة لتحقيق الأهداف التنظيمية بكفاءة عالية، كما وتعكس المعرفة الإدارية قدرة المنظمة على جمع المعلومات وتحليلها وتوظيفها في عمليات التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة؛ مما يؤدي إلى تحسين الأداء وتحقيق النمو المستدام.

التجربة الشخصية:

هي المعرفة أو الفهم الذي يكتسبه الفرد من خلال تجاربه الخاصة في الحياة، سواء كانت متعلقة بالعمل أو العلاقات أو التحديات الشخصية، ولا تتطلب بيئة عمل رسمية، بل يمكن أن تتكون من خلال الهوايات والسفر والتفاعل الاجتماعي أو حتى من الأحداث اليومية مثل شخص سافر إلى عدة دول، وتعلم ثقافات مختلفة.

الخبرة العملية:

هي المعرفة والمهارات المكتسبة من خلال العمل في بيئة مهنية أو ممارسة نشاط معين لفترة زمنية محددة، وغالبا ما تكون موثقة في شكل سجل وظيفي أو شهادات، وقد تبنى على التدريب والتطبيق العملي والالتزام بمعايير مهنية كشخص عمل كمترجم في شركة دولية لمدة خمس سنوات؛ ولذلك أصبح يملك خبرة عملية في الترجمة وإدارة المحتوى اللغوي، وبالتكامل مع هذه العناصر «المعرفة الإدارية، التجربة الشخصية، الخبرة العملية» ما يصنع القائد الإداري الناجح الذي يستطيع مواجهة التحديات بفعالية، ويحقق الأهداف التنظيمية.

وفي هذا السياق تستحضرني كلمة الشيخ محمد بن راشد في كتابه ”رؤيتي“ التي يقول فيها " لا نستطيع أن نجلس ونكتف أيدينا ونقول: لا نعرف ماذا سيحمل لنا المستقبل! إذا تركنا الأحداث تصنع لنا مستقبلنا، فإنها ستعطينا المستقبل الذي تريده وليس المستقبل الذي نريده نحن. وإذا تركنا الآخرين يصنعون مستقبلنا، فإنهم سيعطوننا المستقبل الذي يناسبهم وليس المستقبل الذي يناسبنا. وإذا لم نختر المستقبل، فإننا سنختار الماضي. ماضينا كان عظيمًا وهو في قلوبنا وتكويننا، لكن الماضي له زمانه ومكانه وأهله، ولا نستطيع أن نعيش فيه.

أما عن المعايير التي يتم في ضوئها تحديد قيمة التجربة الذاتية والخبرة الإدارية فيقول د. محمد عبد الله البكر في مجلة التنمية الإدارية: أن المعايير التي يتم في ضوئها تحديد قيمة التجربة الذاتية والخبرة الإدارية تأخذ بعدين رئيسين هما:

1 - المعايير الموضوعية

وتتمثل هذه المعايير بالعديد من الوسائل والأساليب منها على سبيل المثال تحديد مستوى التعليم، والتخصص العلمي، ونوع العمل الممارس، المهام والمسؤوليات التي تم مزاولتها وسنوات الخدمة، والتي يبدو أنها سهلة من حيث القياس والتحديد لتقييم مستوى التجربة والخبرة الذاتية، إلا أنها في الواقع قد لا تعكس بشكل تام ودقيق مستوى الكفاءة والفاعلية للشخص من حيث القدرة والاستعداد في الأداء.

2 - المعايير الذاتية

وهي معايير داعمة ومعززة للمعايير الموضوعية، وذلك لإكمال الصورة التقويمية للشخص عن مستوى التجربة والخبرة الذاتية التي نحصل عليها، ونكتسبها من خلال التأهيل أو العمل السابق كتقديم مشروع أو عمل لتطوير وتحديث الطريقة أو الأسلوب المتبع في الأداء، أو من خلال الاتصال بالمديرين والمشرفين والزملاء الذين سبق أن عملنا معهم.

المتقاعد أو المتقاعدة ثروة حقيقية

لماذا لا يوثق المتقاعدون أو المتقاعدات تجاربهم الذاتية؟

لا شك أن كل متقاعد أو متقاعدة لديهم حصيلة وافرة من الخبرات والتجارب العملية والحياتية التي تراكمت على مدى السنوات الطويلة في العمل، وقد تكون كنزا ثمينا من الدروس والعبر التي يمكن أن يستفيد منها الأجيال القادمة سواء في مجالهم المهني، أو في مجال الحياة بشكل عام، ولكننا وللأسف الشديد نلاحظ ونسمع أن عددا كبيرًا من المتقاعدين أو المتقاعدات لا يوثقون تجاربهم الذاتية إما بسبب عدم إدراكهم لأهمية التوثيق أو لاعتقادهم بأن ما مروا به قد لا يكون ذا قيمة للآخرين، كما أن بعضهم قد يفتقر إلى المهارات اللازمة للكتابة والتوثيق، أو قد يشعر بعدم الثقة في قدراته على سرد الأحداث بشكل جذاب ومؤثر، ومن أبرز الأسباب التي قد تؤدي إلى عدم التوثيق كما أتصور هي التالي:

1 - الانشغال بالأنشطة الشخصية أو العائلية اليومية

حيث يعتقد البعض أن لديهم وقتا كافيًا للقيام بالأشياء التي لم يتمكنوا من فعلها خلال حياتهم المهنية، ولكنهم يجدون أنفسهم مشغولين بأنشطة عائلية أو شخصية مثل قضاء الوقت مع الأحفاد أو السفر أو ممارسة الهوايات، رغم أنه كان يخطط لذلك قبل التقاعد.

2 - الرغبة في الاحتفاظ بالتجارب الشخصية

حيث إن البعض يفضل عدم مشاركة تفاصيل تجاربه المهنية إما لأنه يرى أنها تجارب خاصة أو لأنه لا يرى فائدة كبيرة في توثيقها للآخرين مثل متقاعد كان يشغل منصبًا إداريًا رفيعًا، وواجه تحديات صعبة في وظيفته، لكنه يرى أن هذه التجارب تخصه وحده، ولا يرغب في نشرها أو توثيقها، حتى لو كانت مفيدة للأجيال القادمة.

3 - عدم الرغبة في استرجاع المواقف الصعبة والمؤلمة

فقد يتجنب البعض التوثيق لأنه يعيد إليهم ذكريات قد تكون مؤلمة مثل الصراعات التي مروا بها أو خيبات الأمل التي تعرضوا لها خلال عملهم مثل متقاعد كان يعمل في القطاع الأمني، وواجه العديد من الضغوطات النفسية والمهنية، لكنه يتجنب كتابة مذكراته لأنه لا يريد تذكر اللحظات الصعبة كفقدانه لزملاء في العمل أو التعامل مع حوادث خطيرة وما شابه ذلك.

أهمية التوثيق للمتقاعدين

يعد توثيق التجارب والخبرات للمتقاعدين أمرا بالغ الأهمية لأنه:

أولا: يساهم في حفظ المعرفة المتراكمة ونقلها للأجيال القادمة، كما ويمنح للآخرين فرصة الاستفادة من النجاحات والإخفاقات.

وثانيًا: يشجع المتقاعدين على مشاركة تجاربهم وخبراتهم، وتخليد إنجازاتهم وما قاموا به خلال حياتهم المهنية؛ مما يعزز من دورهم في المجتمع حتى بعد انتهاء مسيرتهم المهنية.

الخلاصة والاستنتاج

إنني أرى أن مرحلة التقاعد، والتي يمكن أن يطلق عليها مرحلة النصف الثاني من الحياة ليست مرحلة خمول أو توقف ذهني، بل يمكن أن تكون فرصة جديدة للنمو والتطور بحيث يستطيع كل فرد فيها أن يحقق استثمار خبراته وتجاربه في مجالات عديدة ومفيدة سواء من خلال العمل التطوعي في الجمعيات الخيرية أو النادي الرياضي أو الاستشارات أو حتى متابعة الشغف الشخصي الذي لم يكن لديه الوقت الكافي لممارسته خلال سنوات العمل كالتأليف والكتابة والقراءة وممارسة الهوايات المحببة إليه مثل الكثير من المبدعين والمتميزين الذين وصلوا إلى قمة عطائهم، واشتهروا عالميًا في مرحلة الحياة المهنية الثانية، أي بعد تقاعدهم كعملاق الفيزياء الحديثة ألبرت أينشتاين، وفرايد تشيكن مؤسس كنتاكي ”KFC“ وبيتر دررك رائد الإدارة وغيرهم.

أما من الخليج ومملكتنا الحبيبة كالدكتور والأديب غازي القصيبي، ورجل الأعمال صالح كامل ومحمد عبد اللطيف جميل وغيرهم من الناجحين.

كما أقترح من خلال هذه المقالة إنشاء لجنة مستقلة تحت مظلة الجمعية الخيرية تتولى الاهتمام والرعاية بالمتقاعدين والمتقاعدات وتوثيق ما لديهم من تجارب وخبرات.

وأخيرًا يمكننا القول إن التقاعد تجربة متجددة يمر بها الجميع، وعلى الجميع أن يجعلها فرصة لإعادة اكتشاف ذاته واستثمار خبراته بطرق جديدة ومثمرة.