آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

ذكر الله.. الوسيط الفاعل!

الدكتور محمد المسعود

في البدء يتعين التسليم أن هذه المباحث يصعب وصفها باللفظ، أو رؤيتها من خلال إمعان النظر بالعقل، فلا ينال أحد إدراك قيمة الذكر هذا إلا من فاض بنقيضه، ثقل الكثبان، ووحشة الرمال، القسوة في القلب المتحجر.. ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: آية 74].

يتباعد المعرض عن ذكره عن كل شيء حوله وهو الشتات الذي لا يبصر سبيله، ولا يهتدي إلى خيره وصلاح نفسه، ويعجز عن طهارتها أو عمارتها.

عقوبة الإعراض المستدامة، الضنك، وقسوة القلب المنغلقة على ذاتها حيث ينفذ إليها نور، ولا ينز منها رجاء في رحمة، والقلب الذي يتردى في ظلمة عماه وووحشته، يبتلى بيباس العروق للروح وشتات الرغائب التي تسلبه اطمئنانه وراحته، وجشع لا يشبع في نفسه، وما لا يرتوي أبدا ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: آية 124].

في كتاب الله «تلازم الإعراض عن ذكره والعمى» وهي من القواعد القرآنية الثابتة لا ينبغي أن نخجل من تلك الغشاوة التي تلتف حول قلوبنا، وتستلب البصيرة من عقولنا بسبب الغفلة المستدامة، فقد عشنا طويلا دون أن يخبرنا أحد أن «الغفلة عن ذكر الله» تجعلنا عميان مبصرين وتجعل وعينا ناقص، وفهمنا مشوه، وإدراكنا للحياة غير مكتمل، وبصيرتنا غائبة، وحكمنا على كل شيء هو صورتنا الذاتية.. «لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا...».

من الذات الناقصة التي لا تفارقنا يتحرك الذكر لله من أعماقها القصية البعيدة وهي محجوبة بطبقات متعددة من الحجب، وبطبقات ثقيلة من الظلمة.. إلى الخارج تتغلل في غمرة بعد غمرة، تنشأ عوالمهم، تكون حسها، وتنشأ وعيها الذي تتفرد به، ولا يناله غيرها، ولا يصل إليه أحد قبل لحظة الجمع على الله.. بدوام ذكره المادي والقلبي والروحي.

الذكر في القرآن الكريم وسيط فاعل يفعل في النفس فيحدث فيها تغييرا في الكينونة، وتحول في النوع، وهو فاعل لأنه يولد في القلب درجة من الوعي، وفاعل لأنه يسيطر على الميول والرغبات، بل ويغير طبيعتها، ويرفع جنس أختياراتها، وطبيعة المتعة التي تدركها وتحيط بها...

الذكر لله بما فيه اللفظ وتكراره وأستدامته.. ليس أداة موصلة، بل هي أداة فاعلة في فاعلها، وتجعل القلب والنفس والروح كلها مفاعيل لها، وتتحقق بهذه الأداة وحدها الإستنارة للوعي، والحياة للقلب، واليقظة للنفس، والترفع الروح لتكون مؤهلة للتجلي الأهلي بحسب منزلتها ورتبتها ومقامها.

حضور كل كلمة هو تجلي معناها وحضوره في القلب..! الحضور يقابله الغياب، والذكر يقابله الغفلة، الغفلة عنه يعني عدم حضوره في قلبك.. ويعني غياب تجليه على روحك، ويعني بعدك عنه، وإعراضه عنك.. ولهذا كانت القاعدة «أذكروني أذكركم..» فلا بد أن تستدعي بوعيك التام حضوره من خلال هذا الوسيط الفاعل «الذكر» ليتم بعد أستقراره نزول الطمأنينة التي يتنزل عليها آثاره وفيضه، وعظيم هباته

بدون هذا الوعي لن تدرك علة الحاح القرآن عليك بأن يلازمك هذا الذكر بوصفه مقدمة لا يمكن تجاوزها، ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: آية 45]. فهذا الذكر الذي يمثل الوسيط الفاعل يزيح التضاد في نفسك، ويفكك الغشاوة، ويزيل الحجب، ويصنع في الذات جمالا يفيض عليها باللطف والحنان والجلال أشكالا وألوانا بما لا تدركه عبارة ولا يحيط بكينونته عقل لأنه غير مسبوق به، وغير قادر على بلاغ منتهاه. والعقل لم يمنح القدرة على إدراك ما يعجز عن تصوره أو بلوغ منتهاه.

وللحديث تتمة في المقال القادم بإذن الله تعالى.