حضور الذات في ديوان «أثر من لون الزمرد»
بين القصيدة والذات الشاعرة مسافة رقيقة لكنها غالبا ما تنكسر لتختلط الذات بالقصيدة والقصيدة بالذات حتى تصبحان شيئاً واحداً لا يمكن التفريق بينهما، وهذه المسافة قد تتضاءل وقد تزداد بحسب الموضوع ومدى الالتصاق به، فإذا كان عاطفيًّا وجدانيًّا ارتفع حضور الذات، أما إذا كان ذهنيًّا فلسفيًّا فسيقل حضور الذات وقد ينعدم تماماً.
للجانب العاطفي الوجداني دور كبير في التأثير على الشاعر ودفعه للكتابة؛ إذ الهدف يتمثل في التعبير الجياش عما يعتمل في الداخل ويجول في الوجدان، ولهذا سيكون للذات حضور وتواجد في القصيدة، بل ربما أصبحت أهم عناصرها حينما تُغرق في الوجدانية والعاطفية.
القصيدة الوجدانية تحتفل بالعواطف وتستدعيها، حيث تساعد في التأثير على المتلقي؛ إما باستدرار دموعه أو بإيصاله إلى الابتهاج، ليقوم بترداد الأبيات والتفاعل معها، وهذان التأثيران لهما وجود في ديوان «أثر من لون الزمرد» للشاعر عبد المنعم الحليلي، الذي يسعى تارة إلى استدرار الدمع وأخرى لرسم البهجة على الشفاه.
للذات إذن حضور قوي في الديوان فلا تمر قصيدة إلا وتحضر المشاعر خلالها؛ ما يدفع إلى التساؤل حول هذا الحضور داخل الديوان، بأي كيفية وأي طريقة؟
يختلف الشعراء في حضورهم، فأحيانا يُسهبون في التعبير عن ذواتهم والحديث عن تفاصيلها، وإشراكها في القصيدة مع كل منعطف بسبب وبدون سبب، وأحياناً يلتزمون السكوت عنها حيث يفسحون المجال أمام الموضوع؛ ليكون الطاغي في مشهدها، كما هو حال القصائد الواصفة للمدن والبلاد والحوادث، أو المتعلقة بالمناسبات والاحتفالات، أو ما يتعلق بالشخصيات الاعتبارية وذات المناصب العالية.
حضور الذات وعدم حضورها داخل القصيدة هو إذن أمر نسبي، يختلف ما بين شاعر وشاعر تبعاً لعمق إحساسه ومدى ارتباطه بالموضوع، فكلما التصق به زاد حضور الذات، وكلما ابتعد عنه قل حضورها، وهذا ما يمكن رؤيته في ديوان «أثر من لون الزمرد»، الذي تحضر الذات فيه بشكل مستمر وفاعل بسبب التصاقها بالموضوع.
تحضر الذات بطريقتين في القصيدة؛ إما بشكلها المجرد الشفاف الذي يوحي بتواجدها دون أن يكون لها تجسُّد فعلي، وهذا غالباً يتعلق بالذهنيات والمشاركة في الأفعال والمشابهة مع الشخصيات والتمثُّل بها، وهنا يكون متأثراً لا مؤثراً، كما في قصيدة «نفحة نبوية»:
"توسلتُ بالأسماء كنتُ موحِّدا وعانقتُ عشقي مذ عشقت «محمّدا»
وأصغيتُ للآيات والذكرُ باسطاً حقيقتَه الأشهى ضياءً وفرقدا"
وإما بشكلها المتجسِّد الذي تشارك من خلاله في صناعة الحدث، وتسيير القصيدة نحو وجهتها، وهنا تكون فاعلة ومؤثرة، وهو ما تسير عليه القصائد ويتَّضح في الديوان، حيث لا تكتفي بالحضور الهامشي والبعيد، إنما تسعى للمشاركة في التأثير على القارئ عبر استدرار دمعته أو إبهاجه، وهذا الحضور المتجسِّد يتنوع ما بين قصيدة وأخرى، فقد يأتي الجسد كاملاً كما في قصيدة «سهمٌّ أراقَ دم القصيدة»:
"في «البقعةِ الأشهى» إذا أقفُ يشتدُّ بي خوفٌ وأرتجفُ
أنأى قليلاً أفتح «الجِهة المهوَى» بقلبي ثمَّ أزدلفُ
أهوِي على أنفاسِ شهقتها حتى تُغيث فمي وأعترفُ"
أو كما في قصيدة «سقيا بلونٍ آخر»:
”إني أتيتُك تائباً من غفلتي إني أراك بكلِّ معتقدي الرجاءْ“
أو كما في قصيدة «حين فاض الملكوت بالحب»:
"خذني إليكَ
يدُ الأشواق تصرخ من دهرينِ
يا سيّدي أفديك أعمارَا"
أو قد يأتي جزء من الجسد بحسب الحاجة إليه، وهذا التجسُّد الجزئي في الديوان أكثر حضوراً، فقد تحضر العين كما في قصيدة «سقيا بلونٍ آخر»:
"فامسح على عينِ المسافة
إنَّ بوصلة الخطى عَمِيت
وتنتظر اللقاءْ"
أو كحضورها في قصيدة «حين فاض الملكوت بالحب»:
"عيني كيعقوبَ
راح الضوءُ عن دمها شوقاً
فهبني أرَ الأضواء تكرارَا"
أو حضورها في قصيدة «انصبابٌ كوثري»:
”"قل تعَالوا“
نُطعم العين بما أفاض الحُسن
من فضل الثِّمار"
وكذلك حضورها في قصيدة «تخطو فتزهرُ هذي الأرض»، الذي يكتسي أبعاداً أكبر ومساحة أوسع في التأثير، كما يشرك معه جزءاً آخر من الجسد هو القلب:
"هبني أرَ النور لو غيباً أتى ودنا إني تعشَّق قلبي واكتسى الحسنا
إذْ لم أزل في اشتباكِ النبض أخبرهُ أني هناكَ على المسرى وأنتَ هنا"
ويستمر حضور القلب في قصائد الديوان، كما في قصيدة «تلبية»:
”سيّدي، خالقي، إلهي، وربِّي اجعل القلبَ للحسين يلبِّي“
وكذلك قصيدة «ومضةٌ من لسانِ الضوء»:
”فصلَّى عليه القلب ثمَّ أتى دنا وقال امتثالٌ ليس يُحصي ثوابهُ“
أما في قصيدة «انصبابٌ كوثري» فحضور القلب يأتي بهدف التخفيف من الأوجاع والآلام؛ ما يجعل لحضوره تأثيراً كبيراً على المتلقي:
”وإذا أعيَا على القلبِ دمٌ حبُّها يكفي لهذا الإنكسَار“
ومن الأجزاء التي تتجسَّد داخل القصائد هو الفم، حيث يتحدَّث ويعبر عن المشاعر ويشارك في الحدث الفني، فمن ذات القصيدة نقرأ:
”سرُّها - مذ غابَ في الذلِّ فمي - لم تكن لي غيرَ آياتِ افتخار“
ونقرأ كذلك:
سرُّها في نورِها من غيبها وحدَها كانت على الكونِ منار"
كما يحضر أيضاً في قصيدة «مصارحةٌ ضوئية»:
"أجدُّ حقًّا
ولا أدري بأيِّ فمٍ أقولها
لو يلفُّ الطينَ خنصُرها"
ليس بالضرورة أن يحضر الفم باللفظ الصريح الدَّال عليه، بل يمكن أن يحضر بمفعوله كما في قصيدة «رجالُ الحقيقة»:
”بنا من الحب صوتٌ كان يكتبنا شعراً كما بحبيبٍ ظلَّ يرتجل“
هذا الاستراتيجية اتَّبعها مع الأذن كذلك، إذ حضرت بمشمولها وهو السماع والإصغاء دون أن تحضر بلفظها الصريح، كما في قصيدة «نفحةٌ نبوية»:
”وأصغيتُ للآياتِ والذكرُ باسطاً حقيقتَه الاشهى ضياءً وفرقدَا“
وأيضاً قصيدة «هو الوقت» حيث حضر السماع وغابت الأذن:
"لن يدركَ السمع ماذا حلَّ في صوتي يومَ ارتأى الموتُ أن يخفيه في الموتِ
لن يدركَ السمع حيث الكونُ يسمعه حرًّا وذات الصدى تحكيهِ من صمتِي"
كذلك استعمل عدم المباشرة في إشارته إلى القدم، فجاء بالمشي عوضاً عنها، كما في قصيدة «هم أيقنوا بالعِشق»:
"مشوا إليكَ
ولكن لم تكن طرقٌ
فاسترجعوا وبكَوا جرحاً سيندَمِل"
جزء آخر أتى متجسِّداً هو كفُّ اليد، كما في قصيدة «أبحثُ عنك»:
”إلى يدكَ المشتاقُ يدنو بما أخفى ويسلوا ظلالَ الروح إذْ تبدأ الكَشفا“
وقصيدة «حُجَّة الهوى» حيث الكفوف فيها مهيَّأة لتقبُّل البركات الإلهية:
”لي فؤادٌ يدعو بكل صباحِ“ أرني حجَّة الهوى وارتياحي"
وليَ العشقُ كي أمدَّ كفوفي لسماءٍ تزيد حبًّا براحي
فأنادي برب أحلامنا البيضاء ”عجِّل“ إلهنا ”بالصلاح“ "
• ختاماً:
حضور الذات في القصيدة يتخذ ثلاثة أشكال:
الأول: حضور ذهني مجرَّد وغير فاعل، فلا يؤثر على الحدث الفني، بل يظل مُنفعِلاً ومتأثراً به، وهذا النوع ورد مرة واحدة في الديوان.
الثاني: حضور كلِّي فاعل ومؤثر في صناعة الحدث الفني، ومشارك في التأثير على المتلقي باستدرار دمعته أو بإبهاجه، وهذا النوع أكثر وروداً من النوع الأول.
الثالث: حضور جزئي لجزء محدَّد من الجسد، بحسب الحاجة إليه في القصيدة، وهذا النوع أكثر الأنواع الثلاثة وروداً، ويأتي إما مباشرة وصراحة باللفظ الدال على الجزء أو بمشمولها وما تفعله.
يؤشِّر الحضور المكثف للجسد بأجزائه إلى تفاعل الشاعر مع الحدث الفني في القصيدة؛ ليكون مُؤثِّراً على المتلقي، فلا يكتفي بنقل الوقائع كما هي، بل يصنعها وينقلها كما يتخيلها وكما يرى نفسه مشاركاً في أحداثها، وهو ما يشير إلى الوجدانية العالية التي يتمتع بها الديوان.