توقع غير المتوقع!
يقول الفيلسوف سينيكا: «ترقب كل شيء، وتوقع حدوث أي شيء، إننا نعيش في قلب الأشياء المقدر لها جميعها أن تموت، لقد ولدنا من فانين وسننجب فانين.. لا أحد يبقى حيا دائمًا» ولا أحد يملك يقين اللحظة التالية من عمره، نجهل مساراتها، ويغم علينا خاتمتها.
فكل جنازة نمشي خلفها هي حدث غير متوقع لصاحبها، وكل مرض مزمن هو قضاء غير متوقع لصاحبه، وكل العيون التي كانت تنظر لقصورها وهي تحترق في دقائق عجلى بإعصار من نار في ولاية لوس أنجلس الأمريكية، كانت تنظر إليه بوصفه ممتنع الحدوث، ولا يمكن تخيل أن يقع.
كانت الغنيمة العظمى أن يجدوا سبيلًا للخلاص من نار تتلظى جائعة لأكل كل شيء تعبره، وفي إلحاح الرغبة في النجاة تركوا لها سياراتهم الفارهة، وركض كل في اتجاه، بحثا عن ملاذ لا تقدر عليه!
وحين عاد كل ثري إلى قصره استقبله رماده! ورماد اللوحات الفنية الباهظة الثمن، والأثاث الباذخ، والمجوهرات النادرة على مستوى العالم!. وبقي يقين غالب في النفس أن ما جرى لم يكن أحد يظن حدوثه بالطريقة التي حدث فيها! ولم يكن أحد يتوقع أن تنزل نار من السماء تحملها ريح صرصر عاتية تقيم سبعة أيام تامة، تتنقل فيها من قصر إلى قصر، ومن مصنع إلى غابة تتمدد على مساحة «110» كيلو متر مربع! وحين غادرت قبض ضحاياها من آثار أقدامها أكثر من 300 مائة مليار دولار رمادًا أسودًا، وأطنانا من النفايات المحترقة!.
وفي كل يوم تلفظ شوارع مدن العالم آلاف القتلى والمعاقين، من حوادث السير.. لم تكن متوقعة عند واحد منهم!.
وكم من مرض دنيء لئيم ضعفت عن مقاومته أجساد فتية لم يفرغ الشباب منها، فحولها إلى مضغة للموت يقتات عليها، يقصيها من حس الحياة، ويدنيها إلى أجل مؤجل، وبقية من ألم لا يزول!.
في الحياة كل شيء محتمل أن يحدث..
وأن يقع ما نرجو حدوثه، أو ما نكره اقترابه، لا أحد يملك يقين اللحظة النازلة من الغيب المكنون، فالموت كالمرض والعجز يأتي كل واحد منها في غير أوانه! والقدرة على الملك لا تختلف كثيرًا عن العجز على المحافظة عليه.
الفيلسوف أنيس طالب، حين كتب كتابه العظيم البجعة السوداء توقع غير المتوقع، يرى أن مقادير الناس من غير المتوقع أكثر بكثير من المتوقع منهم، وإن ما بين أيدينا من عقاقير وأدوية أكثرها كانت غير متوقعة، عفن جبنة يقود إلى الأنسولين، وشظية من زجاج في عين مصاب تأخذنا إلى عمليات التشطيب وتصحيح النظر. وهكذا يرى أن الثراء كالفقر في مرات كثيرة هو غير متوقع لكليهما، غاية ما في الأمر أن الإنسان اعتاد أن ينسب الثراء إلى حكمته وعلمه، وأن ينسب الفقر إلى سوء الحظ والقضاء والقدر المكتوب عليه!.
إن هذا كله يجعلنا أكثر إدراكًا للحقيقة الوجودية العظمى «يهب الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء..» وأن تمام الوعي يتحقق باليقين بما في ملك الله وما عنده، وبمقدار النضج والمعرفة والوعي،. لا يفارقنا الشك بما في أيدينا من أسباب الملك، وأسباب القدرة، ومظاهر الغنى!.
توقع غير المتوقع يعني فيما يعنيه..
تمام اليقين بالله، وحسن الظن به على الدوام فكل شيء بين يديك في لحظة غير متوقعة من الممكن أن تفقده، وكل شيء ترجوه وترجو حدوثه في لحظة غير متوقعة، تناله عطية سابغة من ربك، ويجعل الله له سبيلًا من حيث لا تحتسب، ومن حيث لا تعلم، ومن طريق لم تطأ عليه برجلك.
هل بوسعك أن تدخر هذا اليقين في قلبك!
هل بوسعك أن تقف على باب كل نعمة عليك، وعند كل عطية لك، حتى يفيض وعيك «بما شاء الله لا قوة إلا بالله» أي أن تتجرد من نزوات القوة، وأن يخرج منك غيبوبة وهم المعرفة بالعلة، وغيبوبة وهم القدرة وغيبوبة وهم نسبة الأسباب إليك!.
ربما.. استطعت وقدرت..
فكثير منا لم يباركهم هذا الحظ وهو عنهم بعيد المنال!.