الشّابُ الذي سرقني
المسك:
- كنتُ أفرح كثيراً عندما تصل جدتي «أم ناجي» من السّفر، حتى إنني كنت أقول: جدتي في السّفر، - بهذه العبارة -، وكذلك كنتُ أسأل وأقول: متى ترجع جدتي من السّفر؟.. وهكذا بلهجتنا العاميّة، وكنت مع إخوتي نشتاق إلى سرعة عودتها مُحمّلةً بالكثير من الهدايا لأولادها وبناتها وأحفادها وأسباطها، بل كنتُ أختزنُ في ذهني عودتها الميمونة من هذه الأسفار لأنني لاحظت ذلك منذ أن وعَيتُ على الدنيا فهي تسافر في كلّ عام تقريبًا، وفي كل سنة تذهب إلى مكانٍ مُحدد، فمرّة تذهب للعتبات المقدسة في العراق، ومرة تذهب إلى الحج، ومرة تذهب إلى العمرة وكذلك زيارة الرسول الأعظم في المدينة المنورة، وهكذا، وذات يومٍ وصلت مع من وصل من العتبات المقدسة بالعراق، وكانت فرحتنا في البيت العود كبيرة جداً، حيث كنت أجلس في الطابق الثاني بالصالة مع الأطفال ننتظر هدايانا التي اعتدنا عليها في كل مرة تصل من السّفر، وكنت مع بعض أبناء وبنات عماتي نشاهدها وهي تفتح حقائبها وصناديقها وأكياسها التي وضعت فيها ملابسها وأغراضها، ولكننا - بكل صراحة - كنا في أشد الاشتياق لتلك الهدايا التي وضعتها في إحدى الحقائب أو أحد الصناديق استعداداً لتوزيعها علينا، وكان نصيبي ذلك اليوم أن أعطتني خاتماً جميلاً وعلمتني أين ألبسه بالضبط، حيث وضعته لي في بنصر يدي اليمنى وكان مناسبًا جدًّا، وفصه أحمر يشبه العقيق اليماني، وفضّته تلمع كلما أبرزته للضوء، كما أعطتني بعض الألعاب الصغيرة التي فرحت بها وسُرّ خاطري، ونزلت إلى الطابق الأرضي حيث أسكن مع والِديّ وأمي وإخوتي الصغار، وعندما رأوني صعد إخوتي للطابق الثاني عند جدتي أم ناجي لينالوا نصيبهم من الهدايا، وهي لم تقصّر أبدًا مع أيٍّ كبير أو صغير من عائلتنا الكبيرة، كما إن ذلك اليوم الذي تعود فيه جدتي ”رحمها الله“ من السّفر يكون بمثابة العيد لنا جميعًا، حيث يجتمع كل أفراد العائلة جدتي ووالدي «أبو عقيل» وإخوته وأخواته كلّنا في الطابق العلوي، فيجلس النساء في جهة ومنهم والدتي «أم عقيل»، والرجال في جهة، والأولاد والبنات يحوطون بجدتي بكل حبّ ومودّة.
ذات يوم كنت ألعب في الطريق الضيق الذي يفصل بيتنا العود عن بيت جارنا الحاج حسن الشيخ من البوابة الشرقية للبيت، وكنت مُتباهياً بالخاتم الجديد الذي يُزيّن إصبعي البنصر من يدي اليمنى - كما علمتني جدّتي -، وصرت أتمشّى في طرقات الديرة، وإذا بي أرى شاباً قوياً طويل القامة نوعًا ما ويلبس غترة مرفوعة على هامتهِ من الجانبين وشاربه يظهر واضحاً تحت أرنبة أنفه، ووجهه عريضٌ كأنّه أحد المقاتلين الذين كنت أشاهدهم في تلفزيون الأبيض والأسود - زمانئذٍ -، فأصابتني منه هيبة عندما نظر إليّ ولمح الخاتم الذي ألبسه، فإذا به يتقدم صوبي ويمسكني من الخلف كأنّه يُكتّفني بيده اليسرى، ثمّ يضع راحتها على فمي حتى لا أصرخ، ويده اليمنى تنتزع الخاتم الجميل من إصبعي بكلّ قوة، حتى شعرت بشيءٍ من الألم، ثم نظر في الخاتم وهو يبتسم ووضعه في جيبه الأيمن ومشى وكأنه لم يفعل أيّ شيء، أما أنا فبمجرد أن شعرت بابتعاده عني بدأت بالبكاء ووليت هارباً إلى بيتنا القريب، وهناك التجأت إلى أمي وقلت لها:
- أمّاه هناك شخص تهجّم عليّ وسرق مني خاتمي الذي أعطتني إيّاه جدتي.
- من هو هذا الشخص؟.. هل تعرفه؟.
- لا أعرفه يا أمّاه ولكنني أراه في بعض الأوقات يتمشّى في طرقات الديرة.
- إياك أن تخرج بمفردك مرّة أخرى، فإما أن تلعب في حوش البيت مع أخواتك، أو مع أصدقائك من أولاد الجيران، أو تلعب بمفردك بألعابك داخل البيت.
كنت أفكّر في ذلك الشاب لأنني أعرفه حق المعرفة؛ وأعرف أين يسكن بحي الديرة؛ ولكنّني لم أتكلم ولم أقل لأيٍ كان أين منزلهم، أو ما هو شكله بالضبط، لأنني بكلّ صراحة احتفظت بصورته في ذهني، حيث لاحظته جميل الهِندام، وهادئ الطبع، ومنظره لا يدلّ على كونه من السُّرَّاق أو اللصوص، وصنعت هذه الحالة نوعًا من الحيرة عن شخصية هذا الشاب، وهذه الحيرة جعلتني لا أملك اللغة التي أستطيع بها أن أحلل حقيقته فهو من جهة شاب جميل وطيب وحسن المنظر، ومن جهة ثانية تصرّف معي تصرّف السُّراق واللصوص، مما أحدث عندي نوعًا من التناقض عهن شخصيته، لذا أحجمتُ عن وصفه أو التعريف بشكله أو الإخبار بموقع سكنه، وربما هذا الشعور بمجمله هو الذي أربكني لأنني كنت طفلاً صغيراً ولا زلت أتعلّم الكلمات والجُمل وأساليب التعبير الإنشائي في مثل هذه الحالات، كما إنني وقتئذٍ كنت في المرحلة الابتدائية حيث لا زلت ألملم الكم المطلوب من الوعي؛ وأجمع الحجم المناسب من قيمة الذكاء، وأحيط بالعدد الكافي من أيقونات الحصافة والرّشد.
ولكن في حقيقة الأمر اكتشفت بعد بضع سنوات أنني لم أخبر عن هذا الشاب لظنٍّ حسنٍ في وجداني عن شخصيته، وقد صدق هذا الظن بمشاهدات عدة لاحظتها بشكل واقعي في شخصيته، لذلك سترت عليه حادثة سرقة الخاتم الذي أهدتني إياه جدتي - رحمها الله - ولم أبلّغ عنه مطلقاً، وكما وصلتُ إلى ما آلَ إليهِ ظني الحسن به؛ حيث رأيته بعد سنوات رجلاً مُحترماً أراه في طرقات الديرة وأسلّم عليه ويُسلّم عليّ، كما كنت أراه في بعض مجالس العادات الأسبوعية بحينا، وربما رأيته مرة أو مرتين في مجلسنا الأسبوعي بالبيت العود، وأنا في تمام التّعجب والاستغراب من تصرفه القديم معي، وتصرفاته الجميلة والجديد وهو رجل كبير.
الروائياتي:
- ذكريات مُثيرة نوعًا ما لأنها تنتمي إلى فعلٍ غير حضاري وغير أخلاقي أيضًا وهو السرقة، وفي عالم السرد كالرواية والقصة والمسرح، هناك أمثلة لبعض الشخوص يتذكرون أيام طفولتهم، وكيف قام بعض الأشخاص من سرقة بعض أغراضهم وممتلكاتهم، حتى لو كانت بسيطة، ولكن هذه الذكريات ظلت محفورة في وجدانهم وأعماقهم، ولا زالت تؤثر في نفسياتهم حتى بعد ما كبروا ومرّت عليهم عدة عقود، كما في حالتك هذه التي ذكرتها أيها ”المسك“، ويمكننا قراءة العديد من الأمثلة من الأدب الإنساني بمختلف أجناسه وفي عالم السرد بالذات، وهناك نتائج من جرّاء هذا الأثر النفسي الذي بقى معهم حتى بعدما كبروا، كحالتك بالضبط، ففي عالم السرد الروائي والقصصي والمسرحي هناك العديد من الأمثلة التي تناولت فكرة الذكريات المؤلمة من الطفولة، لا سيما تلك المرتبطة بالحرمان أو السرقة أو الإحساس بالظلم، والتي بقي أثرها النفسي عالقًا بالشخصية حتى بعد مرور عقود، ومنها ما جاء في رواية ”الأيام“ لطه حسين، ففي هذه السيرة الذاتية، يتحدث طه حسين عن ذكريات طفولته في الريف المصري، وكيف تعرض للحرمان من بعض الأشياء بسبب فقر أسرته، مما عمّق لديه الشعور بالنقص والحرمان، وهو ما أثر لاحقًا في تكوين شخصيته وساهم في شغفه بالعلم كوسيلة لتعويض هذا النقص، وكذلك في رواية ”الأمير الصغير“ لأنتوان دو سانت - إكزوبيري يستذكِر الأمير الصغير بعض المواقف التي تكشف عن براءة الطفولة وصدمة الخيانة أو الخذلان من الكبار، وكيف أن بعض التجارب القاسية تبقى في ذاكرته، مثل قصته مع الوردة التي لم تقدّر محبته، وكذلك في رواية ”البؤساء“ لفيكتور هوغو نلاحظ أن شخصية ”جان فالجان“ هي مثال كلاسيكي على الأثر العميق للحرمان في الطفولة، حيث سُجن بسبب سرقته رغيف خبز لإطعام أخته وأطفالها، وهذا الحدث غيّر مجرى حياته تمامًا، مما جعله يعيش صراعًا نفسيًا بين الخير والشر حتى بعد نضجه، وفي رواية ”دافيد كوبرفيلد“ لتشارلز ديكنز، نقرأ أن ديكنز نفسه الذي عاش طفولة صعبة يروي في هذه الرواية قصة طفل يتيم عانى من سوء المعاملة والحرمان، حيث شكلت هذه التجارب قناعاته ومواقفه في الحياة عند البلوغ، أما عن الأثر النفسي لهذه الذكريات فهي الشعور الدائم بالحرمان حتى بعد أن تتحسن ظروفهم، يظل هؤلاء الأشخاص يعانون من خوف داخلي من فقدان ما لديهم، وكذلك الرغبة في التعويض فقد يسعون لتعويض ما فقدوه في طفولتهم، إما بالمبالغة في التملك، أو بالإحسان إلى الآخرين الذين يمرون بنفس الظروف، وكذلك عدم الثقة بالآخرين حيث إن التجارب المبكرة مع الخيانة أو الظلم تجعل بعض الشخصيات متحفظة أو غير قادرة على تكوين علاقات مستقرة، ومن الآثار أيضًا إعادة إنتاج المعاناة؛ فأحيانًا يقوم هؤلاء الأشخاص بتكرار نفس المعاناة مع غيرهم دون وعي، خاصة إذا لم يتعاملوا مع صدماتهم النفسية بشكل صحي؛ وكل هذه الذكريات المتجذرة في النفس تبقى أحد الدوافع الكبرى للكثير من الشخصيات في الأدب، وتفسر سلوكهم وصراعاتهم الداخلية حتى بعد أن يكبروا، وسؤالي هو ما الأثر الذي تقرأ ملامحه في شخصيتك من جراء تلك الحادثة القديمة التي ذكرتها أيها المسك؟.
المسك:
- لقد شرحت ذلك فيما تطرقت إليه بخصوص الستر على هذا الشخص لأنه من حيّنا نفسه، ولأنني تعلمت من عائلتي أن جميع أهالي وعائلات حينا كلهم بمثابة أسرة واحدة، ثم إنني أحسنت الظن بهذا الشخص وقلت في كوامن نفسي بأنه سيتغير في يوم من الأيام، وبالفعل حصل ذلك ولله الحمد.