قصص لا تسمعها إلا استراقًا
أجواء شهر رمضان المبارك في محافظة القطيف عادة تبدأ مبكرًا، هذا النمط التلقائي هو سمة من سمات المجتمع في القطيف. أود هنا الإضاءة على نمط آخر يحتاج تسليط الضوء عليه ونحن في هذه الأيام والأجواء الإيمانية التي تسبق شهر الصيام، وهو إشاعة الأحداث والقصص المميزة التي تعبر وتمثل المجتمع، وتميزه على أكثر من صعيد. فتكشف عن جانب إيجابي مهم لسلوك اجتماعي يستلهم منه الكثير من الدروس العملية، كما أنه يشكل مصدر فخر لأي مجتمع يمتاز به.
موضوع الديون والتداين بين الناس هو من المواضيع التي فيها حساسية ما، وربما عادة ما نسمع عن جانب واحد منها فقط، وهو قصص الذين لا يسددوا أو يماطلوا في سداد ما عليهم من ديون للآخرين، وهذا له تأثيراته السلبية المتعددة التي لا تخفى على أحد، وهناك الكثير من القصص المحزنة التي نسمعها بهذا الشأن إلى الدرجة التي تجعل المرء يفقد الثقة في الكثير من الحالات، بل قد تجعل الإنسان يفقد جزءًا مهما من جودة الحياة، ومنح بعضنا فرصة الأخذ والعطاء بقدر مناسب من الثقة في هذا الشأن الهام، والواقع هذا الأمر متشعب، ويحتاج للكثير من المعالجات بدءًا من اختيار الآلية المناسبة لتوثيق الدين وغيرها.
الجانب الذي أريد التحدث عنه هو نماذج من أولئك الذين يحرصون أشد الحرص على الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه الآخرين، ويقدمونها على أي شيء آخر، فهناك العديد من قصص الوفاء والالتزام التي أدعي أنها ليست قليلة، بل ربما أن القليل هو في ذكرها ونشرها بين الناس فقط، سيما إذا قارنا ذلك بمعدل تكرار وذكر القصص السلبية الأخرى، ربما هناك حالة من التعفف عن ذكر تلك القصص الجميلة التي تحتاج أن تروى، بل وأن تدون للتاريخ لتكون تفاصيلها شاهدا لنا وعزًا ونبراسًا للأجيال.
هذه القصص العظيمة للأسف معظمها لم يذكر إلا لِماما أو عبر استراق السمع أحيانا، ولا تكون موضوعًا رئيسًا. من هذه القصص التي عايشها أحد الأصدقاء وهو تاجر أن أحدهم ونتيجة لعدم قدرته على سداد دينه في الموعد المحدد أصيب بالوسواس القهري، وصار يتخيل أن الدائن يطالبه بالدين، علما بأن الدائن لم يكلمه أن يطالبه بالسداد. كما نلاحظ سلوكًا شبه معتاد وهو قيام المدين بعد وفاة دائنه مباشرة بالمبادرة بسداد دينه للورثة أو توثيقها لديهم، رغم أنها غير موثقة في الغالب، وكذلك حالات بعض مستحقي الدعم المادي عندما يتحسن وضعهم، ويصبح لديهم ما يكفيهم من المال، فيرد المبالغ الإضافية التي تصل إليهم من قبل المشايخ حفظهم الله الذين يتصدون لهذا الأمر، وأيضا كمثال ناصع تلك العائلة المتعففة التي كانت تتلقى دعم جمعية تاروت الخيرية عبر كوبونات شراء من محال محددة، لكنها تطلب من البائع الشراء بجزء من قيمة الكوبون فقط، وهو يمثل ما تحتاجه فعليًا، وتسأل البائع أن يصرف الجزء الباقي من قيمة الكوبون لأي محتاج يأتيه.
بعض هذه القصص عرفته استراقًا للسمع، ولم ترو لي مباشرة، لذا قد يبتسم أحدهم عندما يقرأ هذا المقال؛ لأنه سيكتشف أنني كنت أسترق السمع عندما كان يقص إحدى هذه القصص لآخر وأنا بالقرب منه.
مثل هذه القصص والمواقف هو التراث غير المادي الذي يختزن الكثير من القيم والسلوك الإنساني لكل فئات المجتمع حتى الضعيف منها، لقد صاغ هذا المجتمع هذا التراث فلا يصح التفنن في تغييبه أو تجاهله، بل يحتاج إلى توثيق وإبراز؛ لأنه جزء من قيم وثقافة المجتمع، فليس مقبولًا أن تكون هذه القصص والمواقف بعيدة عن الإنتاج الأدبي والمسرحي للمنطقة، سواء على مستوى الرواية أو الشعر أو غيرهما من المجالات الأدبية.