آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

خدعتُ «عبدَ العَينِ» بِذكائي الطُّفولي

عقيل المسكين *

من عجائب الحياة التي عايشتها في المرحلة الابتدائية هي ظاهرة ”عبد العين“، ذلك الجني المخيف؛ والذي سمعت عنه بعض القصص من عامّة المجتمع، حتى إنني سمعت قصة عنه في أحد المجالس بديرة سيهات أيام الطفولة، حيث ذكر ذلك الشخص: إن أحدًا ما كاد أن يغرق في العين الشمالية الكائنة بجانب المبنى القديم للمغيسل بحيّ الخصاب لولا أن تداركه أحد السباحين وأنقذه.

وسمعت أيضاً: إن أحد الذين كانوا يسبحون في هذه العَين كاد أن يغرق حيث تحدث بعد خروجه أنه شعر بأن شخصاً ما بدأ بسحبه من الأسفل؛ حيث أمسك بقدميه وصار يجرّه للأعماق إلا أنه انتفض بسرعة داخل الماء وفكّ رجليه من الذي يحاول سحبه حتى خرج من العَين وقد سلِم من الغرق.

وكنت أخاف عندما أمرّ على تلك العين أثناء ذهابي لمدرسة الأندلس الابتدائية وأثناء عودتي منها، وبالذات عندما أتذكر الحادثتين السابقتين.

وقد نقل لي الشاعر عبد الله الجفال أن أحدهم نقل له قصة عجيبة وإلى تاريخ روايته لي هذه القصة وهو يفكّر في فحواها، لغرابتها وعناصر الخوف التي تحتويها، حيث إن هذه العين الشمالية غرق فيها أحد أقاربنا من عائلة المسكين، وكان قد غاص فيها ليجلب منها الطين، لأن بداخلها كهوف جانبية من حوالي حفرتها العميقة، وهي تشبه الكهوف الجبلية ونسيمها «الدواعيس»، والذي قام بإخراجه من داخلها شخص يُقال له «عبد الله داوود» وهو سبّاح مشهور.

وهناك قصة ثانية حدثت عام 1979 م حيث نُقل أحد الأصدقاء وهو علي مهنا والذي يُسمى ”ودّ امهنِّيِهْ“، أو الأخ علي راشد - والتردد منّي بسبب الذاكرة -، وهو من الأصدقاء قديماً، حيث يقول:

- كنت قادماً من المدرسة وقت المغرب - الفترة المسائية -، وبيتنا وقتئذٍ كان في حي الخصاب؛ وكنت قادمًا من جهة الجنوب مُتجهًا للشمال؛ ومررت بجانب المغيسل وبجانب العين الشمالية التي تقع بالقرب منه، وعندما تقدمت قليلاً عن العين وصارت هي من وراء ظهري وإذا بشخص ما غريب المنظر يركز ورائي وفي يديه سلاسل ”يخرخش“ بهما ويضرب الأرض أمامه وهو يلاحقني، وعلى ما يبدو أنه ظهر من العين نفسها، للبلل الذي في هيئته كلّها، ثم أمسك بي يريد أن يجرّني إلى جهة العَين، وصرت أصرخ وأصرح بصوت مُدوّي، وهو يسحبني وأنا ”أتعفرت“ من بين يديه وأحاول أن أفكّ نفسي وأتحرّر منه حتى أهرب وأنجو بنفسي، بينما هو لا يزال يحاول أن يجرني إلى جهة العَين، وأنا خائف أن يلقيني فيها، وأنا لازلت أصرح وأحاول الهروب، وتمكنت بعد اللتيا والتي من الفِكاك منه ثم الهروب، وقد رأيت ذلك المخلوق العجيب وهو يركض والسلاسل يَحملها بيديه ويخرخش بهما ويضرب الأرض إلى أن وصل إلى العَين وألقى بنفسه من فوق حائطها النصف دائري الذي يحيط بها.

ويضيف الشاعر عبد الله الجفال:

- هذه القصة حاولت أن أرى لها تفسيراً ولم أهتدي إلى ذلك، لأنها قصة عجيبة بالفعل، وهذا الشخص الذي رواها لي من أصدقائي القدامى، وأنا كنت أظن أنه كان يمزح، إلا أنه يؤكد لي بأنها قصة حقيقية، وهو يخبرني بها بكل ثقة، وقد تحدث معي ثلاث مرات وهو يروي ذات القصة بكامل تفاصيلها.

أما الصديق زكي آل محسن، فيروي قصة حول العين الشمالية أيضاً، حيث يقول:

- العين الشمالية التي تقع بجانب المغيسل، نزلنا بالقرب منها من باص الروضة - عندما كنت فيها مع أصدقائي أيام الطفولة قبل الالتحاق بالمدرسة -، حيث توقف الباص بالقرب من باب المغيسل - وقتئذٍ - أنا مع صديقي حسين ناجي المسكين، لأن بيتنا كان قريباً من هذا الموقف، وكان الوقت ظهراً؛ فأخذت زميلي حسين ناجي المسكين وتوجهت به صوب العين الشمالية وهي قريبة من مكان نزولنا من الباص، وقمت بمساعدته في خلع ”مريول“ الروضة وبقية ملابسه وأبقيت عليه الهاف الداخلي فقط، وكذلك قمت أنا بفسخ المريول وملابسي الأخرى وأبقيت الهاف الداخلي فقط، ثم ساعدته في صعود الحائط القصير الذي يحيط بالعين استعداداً للسقوط في الماء للتسلية، وإذا بنا نرى أحد الأشخاص من عائلة المسكين من الذين يسكنون في حي الخصاب قد رآني من بُعد وجاء يركض وهو يصرخ علينا:

- ”يا أولاد يا أولاد لا تطبُّون لا تطبُّون وقفوا وقفوا.. لا لا. مو زين تخليه يطب وانت بعد وقف لا تطب“.

فانتبهنا له وتريثنا قليلاً قبل أن نقفز من على السور الخاص بهذه العَين، ووصل إلينا هذا الرجل وأنزل زميلي حسين المسكين من علَى سور العين وأنزلني أنا أيضاً؛ ثم أمرنا بلبس ملابسنا، ثم قام بإيصالي إلى منزلنا القريب، كما قام بإيصال حسين ناجي المسكين إلى منزلهم، لأنه يعرفنا كلانا.

وهذه الحادثة على ما أتذكر وقعت عام 1976 م، وكنا حينها في روضة سيهات عندما كانت دوراً واحداً، والباص كان من نوع الباصات الجمس الصفراء المشهورة وقتئذٍ، وكنت شقيًّا إلى درجة كبيرة، ومنذ بدأت المشي وهم يبحثون عني من مكان إلى مكان ومن بيتٍ إلى بيت من شدة تعلّقي بالتنقل مع زملائي وأصدقائي الصغار.

هذا هو ”عبد العين“ في الذاكرة الشعبية السيهاتية؛ فهو ذلك الجني الذي كان يسكن في العين الشمالية، وهي العين التي بجانب مغيسل مقبرة سيهات، في حي الخصاب، وكنت قد سمعت أمثال هذه القصص عنه عائلتنا ومن جيراننا ومن زملائي في مدرسة الأندلس الابتدائية لا سيما من أهالي حي الخصاب الذي تقع في أقصاه الشمالي هذه المدرسة، وقد امتلأ وجداني من هذه القصص والحكايات حدّ الرُّعب وشدّة الخوف، ليس من عبد العين بمجرد رؤيته - على سبيل الصدفة - وإنما من أفعاله المشينة التي يقوم بها.

ذات يوم - في تلك المرحلة - صمَّمت أن أخدع صاحبها الذي لم أره ”عبد العين“؛ حتى لا يخرج بسلاسله الحديدية، لأنه إن خرج سيتعرض لي ولغيري بالأذى في الطريق عند المرور بجانب أسوار تلك العين المخيفة، لا سيما وأنا أمر بجانبها أثناء الذهاب للمدرسة صباحًا، وإثناء العودة ظهرًا، وكانت خطتي الجهنمية - كما يقولون ولا أعلم لماذا تُسمى بخطة جهنمية - هي أن أغيّر الطريق بحيث لا أمرّ بجانب هذه العين مطلقاً، ورأيت أن أمشي بِحذاءِ جدار المقبرة القديم والذي كان مبنيًّا من الحجارة والجص، وقد تم ترميمه بالإسمنت أيضًا في إحدى السنوات، ورغم أنني أعلم بأن هذه المقبرة تضمّ رفات الكثير من الناس الراحلين عن هذه الدنيا من مدينة سيهات - وربما من خارجها أيضاً -، كما أستحضر في ذهني أنها تضمّ جسد جدي لأبي الحاج مدن بن علي بن صالح المسكين، وأخيه جدي لأمي الحاج منصور، ووالدته صالحة المسكين، وكذلك والدهما الحاج علي بن صالح المسكين، ووالده الحاج صالح المسكين، وزوجاتهم وأقاربهم من الآباء والأمهات، إلى حدّ الكثرة والتشعب في شجرة العائلة القديمة، حتى يتوقف ذهني عن عملية التوزيع ومُسمى القرابة لأنني في ذلك الوقت وأنا في بدايات المرحلة الابتدائية لم أكن أعرف شيئاً عن علم الأنساب أو أي معلومة عن شجرات العوائل من أين تبدأ وكيف تتفرع وتتشعب وما إلى ذلك، وكانت معرفتي بأقاربي من خلال الأحاديث التي كنت أسمعها من والِديَّ وجدتي أم ناجي وأعمامي وعمّاتي في البيت العود، بالدور السفلي، وكذلك بالدور العلوي.

الأمر الذي كنت أكنّه في وجداني هو الاحتماء بسور المقبرة عن تلك العَين التي يسكن فيها الجني المشهور «عبدُ العَين»، وقد نجحت الخطة ولله الحمد، وشعرت بالأمان من جهتين، الجهة الأولى السيارات التي تعبر على الطريق يمين المقبرة وأنا أمشى بمحاذاةِ سورها متوجهاً لمدرسة الأندلس شمال حي الخصاب، والجهة الثانية سور المقبرة نفسه على يساري وكامل ما في هذه المقبرة من قبور أهالينا السابقين وأقاربنا من الأصول والفروع رجالاً ونساءً، ولم أكن خائفًا مما أراه - وقتئذٍ - من انتشار تلك القبور على امتداد شواهدها من الحجارة والجذوع، وربما بعض الأخشاب الأخرى، وقد نجحت هذه الخطة ولله الحمد.

الخطة الثانية التي اعتمدتها في تجنّب الجني «عبد العَين» هي أن أمشي مع الناس إذا كانوا كثرة ويمرون من نفس الطريق الذي فيه العَين بجانب المسجد، لأنني عندما أشاهد مجموعة من الناس كالآباء وبعض الطُلاّب يمرون من ذلك الطريق، فإنني أشعر الأُنس والارتياح إليهم وبذلك أعرف بأن الجني «عبد العين» يخاف من الكثرة، فالكثرة كما يقولون تغلب الشجاعة، لذلك أمرّ مع هؤلاء إلى أن أشعر بداخل نفسي بزواج الخطر الممكن أو المتوقّع، سواء في رحلة الذهاب للمدرسة من حيث الديرة إلى مدرسة الأندلس في شمال حي الخصاب، أو في رحلة العودة من المدرسة إلى حي الديرة، وقد نجحت هذه الخطة أيضًا ولله الحمد.

وأتذكر في إحدى المرات أن الشارع العام الذي بيسارهِ سور المقبرة القديم، وكذلك الطريق الذي فيه المسجد والمغيسل والعين الشمالية، كانا فارغين من الناس، وكأنه لا لم يستيقظ أي أحد للذهاب إلى عمله أو إلى المدرسة أو إلى أي طريق آخر، - وأظن في ذلك اليوم قد استيقظت مبكراً جداً ولا أعلم لماذا - فما كان مني إلا أن غيرت طريقي للذهاب إلى مدرسة الأندلس، حيث تخطّيت طريق الملك فيصل وذهبت إلى الجهة الشرقية من حي الخصاب وتوجهت إلى الطريق المؤدّي إلى بيت سعود الشافعي ومن هناك صرت أدخل في الطرقات الفرعية حتى وصلت بعد تعب شديد إلى الطريق المؤدّي إلى مدرسة الأندلس ولم أخبر أي أحد عن ذلك، لأنني لو أخبرت بذلك لقالوا لي المقولة المشهورة عندنا: ”وين أداينك يا حبشي قال هذي“.

ولكنني ولله الحمد أبشّر نفسي للمرة الثالثة بأنني تغلبت على «عبد العين» المزعوم، ولله الحمد، وآمل من جميع القراء ألا يخبروا أحدًا بذلك.