آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

تفاعل المتلقي.. المذهل والمشكل

ياسر آل غريب *

تنقل أخبار التراث العربي أن أبا تمّام شرع في إلقاء قصيدته في إحدى المجالس الأدبية، حتى إذا وصل إلى قوله:

لَا تُنْكِرِي عَطَلَ الكَرِيمِ مِنَ الغِنَى

فَالسَّيْلُ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ العَالِي

فإذا الحسن بن رجاء ينهض، فقال: والله ما سمعتُها إلا وأنا قائم. ومع نهاية القصيدة أبدى إعجابه قائلا: ما أحسن ما جلوت هذه العروس! فقال أبو تمام: لو أنها من الحور العين لكان قيامك أوفى مهر لها.

يتضح من هذا الموقف أن المستمع عبّر وقوفا تقديرا للقصيدة وصاحبها بطريقة لافتة، فلا يكتمل أي عرض أو خطاب إلا بوجود تفاعل بين طرفي التواصل، فالمتلقي ليس مستمعا سلبيا، بل هو شريك في هذه العملية عبر ردود أفعاله، ومحفز لإكمال الحديث في جو من الجاذبية والأريحية.

يعد مجال الشعر تجربة مشتركة بين الشاعر وجمهوره، في محيطنا يأتي طلب إعادة الأبيات للتأمل فيها دلالة على الاستحسان فكلمة «أحسنت أعد» بمثابة وقود الإلقاء. وفي الشعر العمودي عادة مايتوقع المتذوقون القوافي من خلال سياق الأبيات نتيجة خبرات التلقي المتراكمة، وهذا معروف في البلاغة باسم «الإرصاد». ومن مظاهر التفاعل التصفيق لمقطع لامس وجدان المتلقين، أو رفع الصلوات عاليا في القصائد الدينية. وكما أن للجانب الودي دوره في التشجيع فإن الجانب النقدي قد يحضر أيضا فلربما اعترض شخص على الملقي واستشكل عليه بعد نزوله من المنصة.

ينسحب هذا الأمر على قراءة القرآن الكريم، فهناك من القراء يمتلكون تأثيرا واضحا على مريديهم في صناعة الجو الروحاني، فمثلا في مصر نجد حيوية الناس أثناء التلاوة بألفاظ الدعاء منسجمين مع الآيات الكريمة بجرعة كبيرة من السكينة والطمأنينة، وانتشرت في الآونة الأخيرة ظواهر عجائبية تثير الجدل تنشأ من حالة البساطة كالذهاب فجأة إلى القارئ والثناء عليه بطريقة انفعالية، أو صدور حركات غير مناسبة للمقام كالتمايل وماشابه ذلك.

الملقي في أي مجال قد يستاء من تصرفات الحضور، كالانشغال بالجوال أو الأحاديث الجانبية أو النوم!! خاصة في المحاضرات، البعض منهم يختصر مادته بكل هدوء كالشعراء إذا أحسوا أن الجو لا يناسبهم، وآخرون يلفتون الانتباه إلى أن هناك مشكلة في مكان العرض، والانزعاج باد على ملامح وجوههم.

يخضع التلقي عند الجماهير لعدة عوامل بدءا من المادة المطروحة وكايزما صاحبها، وتأثير المكان والزمان إضافة إلى القابلية والاستعداد النفسي والمزاج الخاص. إنه عالم تتضافر جميع عناصره؛ ليسهم في تكوين الذائقة، انظر مثلا كيف تكون الهوسة العراقية، وكيف ينسجم البحارة مع النهام في الموروث الخليجي، وكيف تؤثر أهازيج المشجعين في إذكاء الحماسة بالملاعب الرياضية. التلقي باختصار هو تفاعل طبيعي مع نصوص الحياة المختلفة، وبغير هذه الاستجابات على اختلاف أشكالها لن يكتمل المشهد، ويظل جزء من النص مفقودا.