آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

كنتُ أقرأ في الكتب للملا عليّ خليفة

عقيل المسكين *

ومما أتذكره جيداً في المرحلة الابتدائية «1394 هـ - 1399 هـ» الملا علي خليفة ”رحمه الله“ حيث كان يحضر قبل المجلس الأسبوعي مساء كل أحد ليلة الاثنين بحوالي نصف ساعة أو ساعة على أكثر تقدير، ونُدخله المجلس بالدور السفلي؛ ثم يُخرج من كيس كان يحمله معه بعضَ الكتب من الدواوين الشعرية والسيرة التاريخية للإمام الحسين وشهادته، ثم يطلب مني أن أقرأ له بعض القصائد كان قد علّم عليها بورقة عن طريق أحد أفراد عائلته أو عن طريق أحد معارفه، - لأنه كان كفيف البصر - وبالتالي أقرأ له تلك القصائد وهو يُردّد معي، وكان يطلب مني التّكرار فأُكرّر القراءة وهو يقرأ معي حتى يحفظ الأبيات، واللطيف أنه كان يقرأ بالطور الحسيني الذي اعتدنا الإنصات إليه أثناء قراءة الملالي والخطباء في المجالس، أما الفوائد التي شعرت بأنني حصلت عليها فمن أهمّها الاستمتاع بقراءة هذه القصائد؛ لأنني كنت أقرأها بتشوّق واكتشافِ الجديد، حيث إن هذه الكتب ليست عندي وللتوّ أقرأ فيها، ثم الوقوف على الصور البيانية الجديدة من خلال قراءة الشعر الحسيني، وما يحويه من وصف المعاناة التي تحمّلها الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره وأصحابه؛ وذلك من خلال التصويرات الشعرية لأكابر شعراء العربية على مرّ العصور منذ عام 61 هـ وبقاء هذه الثروة الأدبية العظيمة حتى الثلث الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، وكذلك الحصول على ثروة لغوية؛ إضافة إلى ما لديّ من مفردات وتراكيب اللغة من خلال قراءاتي السابقة سواء في المدرسة أو من خلال ما أسمعه منه في الأسابيع الماضية للعادة الأسبوعية بمجلسنا؛ أو من خلال ما أسمعه من الخطباء في مجالس أخرى، كما استوعبت بعض الأبحر والأوزان الجديدة من موسيقى الشعر العربي الأصيل، ليس بمعرفة أسماء البحور وتفريعاتها من الأوزان المختلفة، وإنما بإدراك أنواعها سماعيًّا واكتشاف الفروقات بين بعضها البعض، إضافة إلى ما أدركته في قراءاتي السابقة، ومعرفة القوافي الجديدة ضمن البناء العام للقصائد العمودية إضافة إلى القوافي التي تعودت على الالتفات إليها من خلال قراءاتي السابقة.

لقد وعيت كل ذلك بشكل مُجمل إلا أنني لم أكن أعرف المصطلحات أو تحديد كل تلك التفصيلات وتقسيماتها ومُسمّياتها ضمن انتمائها لتلك العلوم كالبلاغة وأقسامها الثلاثة المعاني والبيان والبديع؛ أو العروض والقافية، حتى تعلمتها في المدرسة شيئاً فشيئاً ما عدا علمي العروض والقافية لأننا لم ندرسه في المدارس النظامية لا في المرحلة الابتدائية ولا المتوسطة ولا الثانوية، حتى ضمن دروس اللغة العربية وآدابها، وعلى حد علمي أن علم العروض كان يُدرس في مرحلة البكالوريوس بكلية الآداب بأي جامعة من جامعات المملكة، أما أكثر الشعراء بالمملكة والوطن العربي بشكل عام فكانوا يكتبون الشعر بالسليقة إلا أن بعضهم قد تعلم العروض والقافية بنفسه أو بطريقة المباحثة في مجالس العلماء والأدباء، وانتشر تعليم هذا العلم بعد دخول التعليم النظامي في مختلف الدول العربية، وفي السابق كان يُدرس في بعض المدارس التقليدية غير النظامية ويتم تعليمه بطريقة التغنّي بالشعر على شكل الإنشاد كما كانوا يتعلمونه في بلاد المغرب العربي، وفي عُمان، وقد استمعت إلى بعض الشّيبة وبعض الشباب أيضًا في مدينة مسقط وهم يقرؤون الشعر بالطور، بحيث يكون لكل وزن طور خاص به، وكذلك بعض الدول الأخرى، وبعضهم يتعلمونه بطريقة اللحن المغنّى باستخدام الدفوف كما في بعض بلاد المغرب العربي، أما في حوزاتنا العلمية بالعراق وبالقطيف والبحرين والمناطق الشيعية بالخليج فلا يتم تعليم علم العروض والقافية إلا نادراً - وإن درسته بعض الحوزات العلمية فهو ليس درسًا أساسيّاً بتلك الحوزات -، ولكنه متروك لمن لديه موهبة الشعر فإنه يتعلمه بنفسه أو بطريقة المباحثة أو عن طريق بعض الشعراء حيث يعلمون هذا العلم لطلابهم ومُريديهم بشكل خاص.

لقد أدركت هذا العلم من خلال قراءة الملا عبد الرحيم النصر ”رحمه الله“ سابقاً قبل مجيء الملا علي للقراءة في مجلسنا، حيث كان يقرأ الشعر بطريقة جميلة وأداء حسن في مخارج الحروف وإعطاء الجملة حقها من النطق السليم، إضافة إلى تنويعه في القصائد والمقطوعات التي يستشهد بها في خطابته الأسبوعية، وكان يتخذ أسلوب الحكماء في قراءته وفي موضوعاته، وبعد أن توفّاه الله اتفق والدي مع الملا علي خليفة للقراءة الأسبوعية وكانت قراءته جميلة أيضًا إلا أن له أسلوبه الخاص في الإلقاء حيث كان مندفعًا في قراءته وحماسته تجعله مائلاً إلى حزنِ كبار السنّ حيث العَبرةِ والبكاء بمجرد التطرق إلى المصيبة شيئاً فشيئاً؛ أما عن أسلوبه في الموضوعات فكان يميل إلى الموعظة المباشرة والإيجاز وأهمية التَّأسِّي بالمعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم يكن يميل إلى الحكمة أو التعمق في الموضوعات، إلا أن نعيه في إلقاء القصائد يلهب المستمعين ويجعلهم ينجذبون إليه، وكل له طريقته وأسلوبه.

لا أنكر أن المنبر الحسيني له تأثير كبير في تكويني الثقافي والأدبي سواء من خلال العادة الأسبوعية في مجلس «البيت العود» بحي الديرة، وكذلك موسم عاشوراء حيث كنت أحضر للاستماع طوال أيام القراءة في محرم الحرام، سواء في حسينية السيهاتي، أو حسينية الملا علي بالديرة، أو حسينية المطرود بالديرة؛ وكذلك حسينية خليفة، أو مجلس شاخور، وغيرها من الحسينيات والمجالس، هذه المجالس هي التي علمتني الشعر وأطواره بطريقة مباشرة وغير مباشرة، مباشرة لأنني أتلقى الشعر فصيحة وشعبية على ألسنة الخطباء، وغير مباشر لأنني كنت أفكر وأتعمّق في التفكير في هذه الأشعار الفصيحة والدارجة وأتأمل فيها فكان هذا تعلّمًا جديداً بالنسبة لي، وهو إضافة أخرى لثقافتي الذاتية ومخزوني الديني والثقافي والفكري والمعرفي بشكل عام، بل أصبح إحدى القواعد والأسس الأولى لتكوين شاعريتي فيما بعد.