آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

السلطوانة.. ذكرى مؤلمة / جميلة

عقيل المسكين *

في الدور السّفلي من البيت العود، كانت السلطوانات المتوسطة للصالة الكبيرة واقفة شامخة كأنها النخيل الجامدة، وواحدتها الأسطوانة ولكننا بلهجتنا العاميّة كنّا نسميها «السلطوانة»، لذلك جمعتها على «سلطوانات»، وهي التي تحوّلت إلى كونها من الأعمدة المربعة إلى كونها إلى الأعمدة الدائرية بالحديد الصّلب والإسمنت بشكلها الدائري من أسفلها حتى أعلاها، وأذكّر قارئي العزيز بأن الفرق بين العمود المربع والسلطوانة هو كون العمود المربع يُبنى هكذا بشكل مربع ويقوم مربعاً حتى السقف، أما السلطوانة فهي دائرية، وكانت هذه السلطوانات تحمل السقف بأكمله، حيث يسكن في الدور العُلوي جدتي وأعمامي وعماتي، وأبي وأمي وأنا وإخوتي وأخواتي الصغار نسكن في غرفتين بالدّور السفلي ويقع في الزاوية الغربية والجنوبية المطبخ، أما في الزاوية الجنوبية الشرقية فيقع مجلس الرجال، وهو المجلس الذي تقام فيه عادة القراءة الحسينية الأسبوعية والتي تهدى إلى روح أجدادي وجداتي والمؤمنين والمؤمنات، وفي الزاوية الغربية الشمالية تقع الرمية الأولى للدَّرج الإسمنتي الذي يصعد إلى الأعلى من الجهة الشرقية الشمالية حتى الجهة الغربية الشمالية - صعوداً - ثم استراحة لتبدأ الرمية الثانية من الدَّرج من الجهة الغربية حتى الجهة الشرقية - صعوداً - وبعد ذلك مدخل صالة الدور العلوي الذي يُوجهنا إلى الجهة الجنوبية من البيت العود، حيث تمتد الصالة من الجهة الشرقية حتى الجهة الغربية ويقع المطبخ في الزاوية الغربية الجنوبية وتقع غرفة جدتي أم ناجي في الجهة الجنوبية الشرقية، بينما تقع غرفتان أُخريتان في الجهة الشرقية الشمالية، وغرفة بجانبها من الجهة الشمالية الغربية، ويقع الحمام الكبير عند غرفة الدرج في أقصى الجهة الشرقية الشمالية، وكان في الصالة دولاب «البياعة» التي تجمع فيه جدتي أم ناجي أنواع الحلويات من بسكويتات وعلوك وبهلوان، خصوصاً ذلك البهلوان الذي يحمل صورة البقرة على علبته وعلى القراطيس التي تلف كل بهلوانة على حدة، و«علوش النُّفاخ» و«زقة الفقير»، وحلاوة «مخدة العروس» والعسليات، وعسليات العلوش، وألوان متعددة من الحلويات للبيع على الأطفال من صبية وبنات يأتين إليها من بيوت الجيران بشكل يومين وكذلك نحن كصغار عندما يكون عندنا بواقي من مصروفنا اليومي نذهب إلى جدتنا لنشتري منا بعض ما نختاره من هذه الحلويات.

ومن كثرة الصيانة الحديثة التي عملها والدي في هذا البيت العود كنت أراه قديمًا من جهة، وجديداً من جهة ثانية، فهو من أساسه الأول مبني بالحجارة والجص والجذوع وخشب الجندل للأسقف، ولكن الصيانة الحديثة له كانت بالحديد المسلّح والرمل الخاص بخلطات السقف وخلطات الجسور والأعمدة، والرمل الخاص بمساح الجدران، و«الكنكري» والإسمنت، فهو يجمع بين القديم والحديث في تقنيات ومواد البناء، واستمر هذا البيت من أيام أجدادي الحاج من بن علي بن صالح المسكين جدي لأبي، وأخيه منصور جدي لأمي.

توجد هناك نوافذ متعددة للدور العُلوي، تطل على الحوش من الجهة الغربية حيث أرض والدتي التي ورثتها من الجد منصور بن علي بن صالح المسكين، حيث ألِفت غرفة جدتي أم منصور - رحمها الله - لسنيّات قليلة قبل وفاتها -، وكنت منذ طفولتي أنقل لها صحن الغذاء بشكل يومي سواء من جدتي أم ناجي - رحمها الله -، أو من والدتي - حفظها الله -، وهناك نوافذ تطل على الزقاق الشرقي حيث منزل الحاج حسن الشيخ - رحمه الله -، ومنزل بيت العريض، وفي الجهة الجنوبية هناك «زرنوق» ضيق يفصل بين البيت العود وبيت أبو عباس السبع - رحمه الله -، أما من الجهة الشمالية فهناك «زرنوق» آخر يفصل بين البيت العود وبيت الحاج شرار - رحمه الله -، وهو من الأحساء كان يعمل نجاراً حُرًّا ويسكن في منزله هذا منذ سنوات عديدة، إلى أن علمت بأنه باعه قبل رحيله بسنوات، وهو الآن مبني لإحدى العوائل بسيهات.

هذه الأسطوانات الإسمنتية التي نسمي الواحدة منها في لهجتنا العامية - كما نقل لي أحدهم بهذا اللفظ - «سلطوانه» تقف شامخة من قواعدها أسفل أرضية الدور السفلي من الجهة الغربية حتى الجهة الشرقية وعددها اثنتان أو ثلاث - لا أتذكر الآن عددها بالضبط -، كانت قوية جداً وقد قام والدي الحاج ناجي المسكين بتقويتها بالإسمنت وبعض أسياخ الحديد، حتى تُثبّت البيت العود وتقوّيه لتكون قادرة على حمل الدور العلوي دون أي اهتزاز أو تضعضع في خرسانة السقف أو الجدران القائمة عليه، وعادة والدي عندما يريد عمل صيانة للبيت العود يتواصل مع البناء المشهور الحاج مهدي الحلال، وهو من سكّان الديرة، ولديه مجموعة من العمّال السيهاتيين وعملهم هو التهديم والبناء وهم مشهورون بهذا العمل، وقد رأيت هذا الفريق العامل من البنائين بقيادة الحاج مهدي الحلال يعملون في صيانة وبناء الجدران ومسحها بالإسمنت، وكذلك رأيتهم يعملون في صيانة السلطوانات المذكورة أعلاه.

وبمناسبة ذكر هذه السلطوانات لي ذكرى مؤلمة وجميلة لا أنساها أبداً منذ أيام طفولتي الثانية أي في السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية «1394 ه/1396 هـ».

ذات عصرٍ وأنا ألعب في صالة الدور السفلي على سيكل ذي ثلاث عجلات، كان قد أحضره لي والدي منذ الصف الأول الابتدائي، وذاكرتي تقول لي الآن: كان لونه أحمر.. ولا أعلم هل تصدق هذه الذاكرة أم ”أتى عليها ذو أتى“؟!، وكان هناك بعض الألعاب الأخرى ألعب بها في أوقات الفراغ، مثل كرة القديم، وهي بالحجم الصغير وليست بالحجم الحقيقي لكرة القدم التي يُلعب بها في الملاعب، وكان عندي أيضًا كرات «التّيلة» وهي بحجمين الحجم الكبير، والحجم الصغير، والتيلة مصنوعة من الزجاج، ولها ألوان مختلفة، وعادة نضع هذه الكرات الزجاجية في شرّاب لا نحتاج إليه ونسميه في لهجتنا العامية ”ادلاغ“ بحيث نربطه من الأعلى وبذلك نكون قد احتفظنا بجميع هذه الكرات الصغيرة والتي أكبر منها دون أن تتبعثر هنا أو هناك فتضيع أثناء التنظيف والكنس، وكنت أحتفظ بكرتون خاص أضع به هذه الألعاب الخاصة بي، كما أضع مجلاتي وقصصي التي كنت أشتريها منذ صغري في درج خاص بدولاب الملابس، أو أضعها داخل أحد الرفوف بهذا الدولاب أيضًا.

في ذلك اليوم كنت أذرع الصالة ذهاباً وإياباً بسيكل الثلاث عجلات.

ومن طريف ما كنت أتذكره أنني كنت حريصًا على اللعب مع الآخرين أكثر من حرصي على اللعب بمفردي، وهذا يعني أنني كنت أعي أن اللعب مع الآخرين فيه تنمية للروح الاجتماعية، وما أحلى أن يكون ذلك منذ الصغر، وهذا الوعي ربما كسبته من والِديَّ لأنهما كانا يحثاني على تنمية هذه الروح الاجتماعية في ذاتي، لذلك كانا ينصحان عقلي الصغير بالتعقّل والتوازن في اللعب مع الآخرين، دون أن أغلط في بالفعل أو القول أو بهما معاً على أي كان ممن ألعب معهم، وهذه النصيحة تساهم في تقوية السلوك العام لشخصيتي في التعامل مع الآخرين ممن ألعب معهم أو معهنّ.

لا زلت أتذكر أنني في ذلك اليوم المقصود كنت أذرع الصالة ذهاباً وإياباً بسيكل الثلاث عجلات.

ومن طريف ما أتذكره من الألعاب المشتركة مع الصبية الآخرين في حي الديرة - زمانئذٍ - كنت ألعب لعبة العكوس وهي صور الممثلين والممثلات العرب والعالميين، وكنا نحصل على هذه العكوس من لعبة «حفظ نصيبك» وهي مربعة الشكل وفيها مستطيلات كثيرة وفي كل مستطيل صورة لأحد الممثلين، أو إحدى الممثلات، أحياناً من المصريين والشاميين وأحياناً من ممثلي هوليود من الكاو بوي أو نجوم الأفلام السينمائية الأخرى، وقد تعرفنا عليهم من خلال تلفزيون الأبيض والأسود، قناة الظهران، وبعض القنوات الأخرى، التي تظهر عندما في التلفزيون الموضوع في صالة الدور العلوي بالبيت العود، وكنت أشاهد هذه الأفلام مع بعض أعمامي وعماتي وإخوتي وأخواتي الصغار، ومما أتذكره أنني لعبت لعبة العكوس، ولم أتذكر أبدًا أنني كسبت في هذه اللعبة مطلقاً، وهذي ذكرى محزنة، إلا أنها الآن بالنسبة لي ذكرى مفرحة، لأنني بشكل - مباشر وقوي - ساهمت في إدخال البهجة والسرور على من فاز عليَّ وجعلني خاسرًا -.

أذكرك أيها القارئ أنني في ذلك اليوم المقصود كنت أذرع الصالة ذهاباً وإياباً بسيكل الثلاث عجلات.

ومما أتذكره أيضًا أنني كنت أعتبر اللعب فرصة للاستراحة من المذاكرة وحل الواجبات المدرسية وحفظ الأناشيد وسور القرآن الكريم، أي القيام بواجباتي المدرسية بشكل عام في المنزل، وهذه الفرصة للاستراحة كانت مهمة جداً بالنسبة لي، ولم تكن أمي لتطيعني في الاستسلام للراحة والتسلية واللعب إلا بعد أن أقوم بكل واجباتي المدرسية، وقد تعوّدت على ذلك لقناعة في نفسي أولاً، وثانيًا لأنني كنت أخاف من العقاب - بكل صراحة -، وهذا ليس عيبًا، إلا أنني عرفت معنى أن أكون مسؤولاً عن نفسي وتنمية ذاتي بقناعة وهذه قيمتها أكبر بكثير من الخوف من العقاب، لأن العمل المسؤول عن قناعة يُنمي الذات، أما العمل المسؤول خوفًا من العقاب فهو من باب إسقاط الواجب ليس إلا.

قارئي العزيز لا زلت أذكرك فلا تنسى أنني في ذلك اليوم المقصود كنت أذرع الصالة ذهابًا وإياباً بسيكل الثلاث عجلات..

وكنت - بكل صراحة - مُستمتعاً باللعب رغم أن السيكل ذي الثلاث عجلات أضحى أصغر من مستواي لأنه من المفترض وأنا في سن الثامنة أو التاسعة أكون قد تعلّمت على السيكل ذي العجلتين، إلا أنني كنت صريحاً معكم، لقد كان سيكلاً بثلاث عجلات وكنت قد احتفظت به من أيام السنة الأولى الابتدائية وربما قبل ذلك أيضًا، ومن شدّة فرحي وأنا أقود هذا السيكل كنت قد أطلقت لرجليّ العنان في الضغط على الدواسات التي تُدير الإطار الأمامي وقد كنت قادماً من جهة الباب الجنوبي متوجهاً لجهة المدخل للحوش الغربي - أرض والدتي - وكانت في المنتصف أسطوانتان دائريّتان تقفان شامختان من أرضية الدور السفلي - الصالة - إلى السقف المرفوع في أعمدة الدور السفلي وفوق هذه الأسطوانتين الوسطيتين الشامختين بقوتهما وعظمتهما، وإذا بي أرى تلك الأسطوانة الأخيرة من الجهة الغربية قد اصطدمت بي في جبهتي مباشرة وكأنها تقصد ذلك مع سبق الإصرار والتّرصّد، وإذا بي أقع من على صهوة هذه الدراجة ذات العجلات الثلاث، فتدحرجت الدراجة في جهةٍ، وسقطت أنا مغشيّاً عليَّ في جهةٍ ثانية.

تمت الفصول الدقيقة لهذا الحادث المشؤوم في ثوانٍ قليلة، و«تطشّر» الدم من جبهتي على وجهي وعلى الأسطوانة نفسها بموقع الاصطدام المشؤوم، وعلى الأرضية المحاذية لها في الصالة، وكادَ أن يُحدث هذا الاصطدام القوي جداً هزّة أرضية تقسم بيتنا العود إلى قسمين، قسم يقع على الجهة الشمالية، والقسم الآخر ”يتقلقل“ في الجهة الجنوبية، وكأن أجزاء من السقف قد «هَيَمَ» علينا - كما نقول في عاميّتنا - أي هَجَمَ وسقطَ، بينما الهواء يتخلل الفتحة الكبيرة التي ستكون بين القسمين، بل إنني تخيلت أن «نِقيلة» هنا بين الأنقاض، و«نِقيلة» هناك.. وبدأت الجدران بالتساقط شيئاً فشيئاً.

وأتخيل أن جميع أهالي الديرة يتجمّعون حول البيت من الجهة الغربية بعد «الركية» - عين الماء - والدروازة ذات الدرفتين التي بجانبها في الزاوية الشمالية الغربية، وحول الجهة الشرقية حيث ذلك الزقاق الذي ألعب فيه مع صديقي علي حسن الشيخ، وبعض أولاد بيت الحلال وبيت الحكيم، هذا ما كنت أظن أنني تخيلته أثناء وبعد الضربة التي كادت أن تكون فيها نهايتي.

في ذلك اليوم لم أرَ نفسي إلا وأنا بين يدينِ حنونتين، وراحتينِ عطوفتين، وعينينِ رؤومتين وصدر دافئ بعطر الأمومة، لقد كانت تظللني كخيمةٍ نسجها الله من حرير الرحمة - حفظها الله ورعاها - وقد ملأت جبهتي بالقهوة المطحونة، ورأسي ملفوف بقماش أبيض، ولا زلت أرى تلك العصافير الجميلة وهي تدور على رأسي، - كما كنت أراها في الرسوم المتحركة القديمة - وأمي تقوم بتنظيف وجهي بقطعة قماش مُبللة، إلا أنني في أعماق وجداني كنت أقول: الحمد لله، بيتنا كما هو لم تحدث الهزة الأرضية، ولم ينقسم البيت العود، ولا زالت تلك «السلطوانات» تحمل بيتنا العود وتحميه بعد الله سبحانه وتعالى.

ولله الشكر والمنة.