الغرائبية والعجائبية في مجتمعنا «1-2»
- مرّ على ذهني مصطلح «الغرائبية» ومصطلح «العجائبية» وما يتعلق بهاتين الكلمتين في النص الأدبي كالشعر، والنثر، والرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، والمسرحية، وإقران هذين المصطلحين بكلمات أخرى في سياق التوصيف والتحليل للمقطع من النص أو لكامل النص مثل: مدهش - فوق العادة - غير معتاد - وما إليها من الكلمات والجُمل، وكنت أذهب لبعض المعاجم الأدبية لمعرفة المقصود من هذين المصطلحين، على معرفتي بالمعنى الاعتيادي لكلمة «غريب»، وكلمة «عجيب»، فأجد المعنيين يدوران في فلك واحد مع اختلاف الموضوع العام، والمضمون الجزئي لكل مثال على حدة.
- صحيح ما ذكرته أيها «المسك»، وقد جاءت الكلمتان في لسان العرب أو أي معجم لغوي آخر كمعجم المعاني الجامع، ووردت تفاصيل أخرى في ذات الفلك لكل كلمة ومشتقاتها فكلمة غريب وهي «اسم»، وهي أيضًا فاعل من غَرَبَ، وجمع غَريب أغراب وغُرباء، والمؤنث من كلمة غريب غريبة، والجمع للمؤنث: غريبات وغرائِبُ، وتأتي كلمة الغَريب بمعنى غير المعروف أو غير المألوف، والغَريب: الرجل ليس من القوم، ولا من البلد، والجمع: غُرباء، ويقال أيضًا: شبه غريب أي غير معقول، ورَجُل غريب الأطوار: مُتَّسِم بما هو خارج عن المفهوم العامّ، ذو طَبْع يصعُب فهمُه، وهذا وجه غريب عليك: غير معروف منك، ويأتيك بكلّ عجيب غريب: بكلّ مدهش لا يُصدَّق، وحديث غريب «مصطلح في علم الحديث» أي ما تفرَّد بروايته شخص واحد، وفي الطيب يقال «ورم غريب» أي ورم مُؤلَّف من مزيج من الأنسجة، ناتج من نموّ خلايا جُرثوميَّة مستقلّة، ويقال: غَرِيبٌ عَنْ وَطَنِهِ: بَعِيدٌ عَنْهُ.
- ما أحلى الإبحار في محيطات اللغة ومعاني مفرداتها، والذي يهمنا هنا هو معنى غير المعروف وغير المألوف لدى المجتمع بشكل عام، وقد تسالم كلّ أفراد المجتمع أو غالبيته على ذلك، ونلاحظ أن مجمل هذه المعاني الواردة في المعاجم العربية التي ذكرتها مُستعملة في لغتنا بشكل عام؛ سواء في الحوار اليومي أو الكتابة بمختلف أجناسها، وكذلك في مناقشاتنا وندواتنا وأمسياتنا، أو حتى في لغة تفكيرنا الفردي، وقد أوردت أيها الروائياتي ما جاء في المعاجم عن كلمة «غريب»، فماذا عن كلمة «عجيب»؟.
- كلمة عجيب «اسم» أيضًا، وعَجَيبٌ فاعِلٌ من عجِبَ، والجمع: عجيبون وعِجاب، والمؤنث: عجيبة، والجمع للمؤنث: عجيبات وعجائب، والعَجيبُ ما يدعو إلى العجب، وعجَبٌ عجيبٌ شديد [للمبالغة]، وعجَب «اسم» وهي مصدر عجِبَ، والعَجَبُ مِنَ اللهِ الرِّضا، والعجَبُ روعَةٌ تأخذُ الإنسانَ عند استعظام الشيء، وأبو العَجَب: البارع الذي يأتي بما لم يُسبق إليه، وعَجَب عاجِب/ عَجَب عجيب أي شديد الغرابة، ولا عَجَبَ: لا غرابة، ونقول: مِنْ العَجَب أن: من المدهش أن، ونقول: يا لَلْعَجَب: يا له من أمرٍ غريب.
- أحسنت أيها الروائياتي، وأؤكد هنا ما قلته حول كلمة «غريب» ومشتقاتها أيضًا، حيث يهمنا هنا معنى ما يدعو إلى العجب، والروعة التي تأخذ الإنسان عند استعظام الشيء، وهذه الكلمة أيضًا كما وردت في المعاجم العربية مستعملة في لغتنا بشكل عام في الحوار اليومي أو الكتابة بمختلف أجناسها، وكذلك في مناقشاتنا وندواتنا وأمسياتنا، أو حتى في لغة تفكيرنا الفردي أيضًا، ولكن ماذا لديك أيها «الروائياتي» عن هذين المصطلحين «العجيب» و«الغريب» من الموسوعات المختلفة؟.
- إذا بحثنا في الموسوعات الأدبية عن المصطلح الأدبي ذاته فنقرأ في ويكيبيديا الموسوعة الحرة، - على سبيل المثال لا الحصر - «بتصرف» أن ”العجائبي «Fantastic» هو مفهوم نقدي من مفاهيم السرد الحكائي، وقد أفرد الناقد البلغاري ترفيتان تودوروف كتاباً خاصًا ظهر بالفرنسية عام 1970 م بعنوان «Introduction ? la Littérature Fantastique» وصدرت له عام 1973 م ترجمة إنجليزية قام بها ريتشارد هاورد بعنوان «The Fantastic: A Structural Approach to a Literary Genre»، فيما تأخرت الترجمة العربية الكاملة للكتاب حتى سنة 1944 م، وكانت تحمل عنواناً هو: «مدخل إلى الأدب العجائبي» للمترجم بوعلام“، كما تطرقت هذه الموسوعة إلى أنه ”لا توجد في المعاجم العربية ألفاظا تقابل مصطلح «fantastique/fantastic» المعروف في النقد الغربي، لذلك شاع استعمال مصطلح العجائبي لقربه منه نظرا لاشتراكهما في الدلالات كالعجب والاندهاش والخيال والخارق وغير الواقعي“، وهذا بالضبط ما هو موجود في قواميسنا ومعاجمنا اللغوية العربية حيث المعنى الاعتيادي لكلمة غريب وعجيب ومدهش وغير واقعي وغير معتاد وهكذا...، ”والمصطلحان القريبان منه - أي العجائبي - هما: حكاية الخوارق contes merveilleux والحكاية الغريبة conte étrange لما لهما من خصوصيات دلالية وبنيوية وتداولية. هذا، ويستند الأدب الفانطاستيكي/ العجائبي إلى تداخل الواقع والخيال“.
- لا أريد أن أقاطعك أيها الروائياتي ولكن ما ذكرته ينطبق تماماً على تجربةِ كتابةٍ شخصية استطعت أن أدمج فيها شخصيتي الحقيقية كراوٍ عليمٍ لإحدى قصصي مع شخصية أُخرى وهي الرمادي الهارب، في قصة مخطوطة بتنفس العنوان، وأعني بالرمادي الهارب ذلك المخلوق الخيالي العجيب الذي ينتمي إلى جنس الرماديين، وهم كما جاء في العديد من المقالات والدراسات المتخصصة سكان جوف الأرض، أو كما جاء في بعض المصادر من سكان بعض الكواكب الأخرى.
- جميل أن تتنوع الموضوعات في تجربة الكتابة لديك أيها «المسك»، وهذا من فوائد القراءة الجادة في مختلف أنواع القراءات لديك، وكذلك من جرّاء التركيز على مضامين شتّى في الرواية والقصة والمسرحية، عربية كانت أو غير عربية، ومنها امتزاج الواقع بالخيال، ومن هذا الخيال ما تطرقت إليه هذه الموسوعة - أعني بها موسوعة ويكيبيديا - حول تداخل الواقعي مع الخيالي ”وتجاوز السببية وتوظيف الامتساخ - من المسخ - والتحويل والتشويه ولعبة المرئي واللامرئي، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والوهم والتخييل“، كما في روايات جول فيرن الخيالية، روايات هربرت جورج ويلز، وتضيف ويكيبديا عن هذه العلاقة بين الحقيقي الحسي والوهمي المتَخيّل: بأن ”هذه الحيرة هي التي توقع المتقبل بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة لا يخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما“.
- كل ما ذكرته هذا موجود في قصص وحكايات جدّاتنا التي نستأنس جميعًا بالاستماع إليها عندما كنا صغارًا، رغم أنها مليئة بالجن والجنيات والعفاريت والوحوش ك «ادعيدع وعبد العين والسعلو وو و» أو ما نعتقد بأنها من الوحوش كأم الخضر والليف - مثلاً -، وما إلى ذلك، ولا يقتصر وجود هذه القصص والحكايات على منطقتنا بل هي موجودة في كل مجتمعات الخليج وتختلف رواياتها من منطقة لأخرى، إلا أنها تدهشنا بقدر ما تخيفنا، وهذا الاندهاش من هذه ”الخرّافات“ أو ”الحزّايات“ في تراثنا الشعبي بمنطقة الساحل الشرقي لا يزال موجوداً في ذاكرة الكثير من أبناء الجيل، حيث يتذكرونها أو لا يزالوا يحفظون بعضها وهم في عقدهم السادس أو السابع، بينما رُويت لهم بغرائبيتها وعجائبيتها منذ أكثر من خمسين أو ستين عامًا مضت، وإبداء الاستغراب أو العجب لديهم لا يزال هو النتيجة في مرأى عيونهم وعلى أطراف ألسنتهم.
- نعم.. نعم وهذا ”يتم حينما نكون أمام حدثٍ يترك أثرًا إيجابيًا على نفسية المتلقي؛ لأن المتعجب منه مستحسن يثير الاندهاش، والإعجاب لروعته وخروجه عن المألوف الذي لا يثير فضوله، كتحول البطل إلى سوبرمان لإنقاذ شاحنة تكاد تسقط في النهر“، وتضيف موسوعة ويكيبيديا أن بعض الغرائبيات أو العجائبيات التي قد تظهر للمتلقي هي تلك المواقف الاجتماعية ذات الطابع السلبي، حيث ”يتم التغريب حينما نكون أمام حدث يترك أثرا سلبيًا على نفسية المتلقي؛ لأن الحدث مستهجن إما لغرابته وإما لشذوذه وإما لما يبثه من هلع وخوف ورعب إلى درجة القلق مثل: تحول الشخصية العدائية إلى شيطان أمرد أو قرد ممسوخ“.
وتضيف موسوعة ويكيبيديا أيضًا: ”بناء على ما سبق، يتم تفضيل استخدام مصطلح العجائبي ترجمة لمفهوم «الفانطاستيك» الغربي، علماً بقصور هذا المصطلح العربي بالمقارنة بنظيره الأجنبي، فالعجيب يختلف إلى حدٍ ما عن الغريب، فالعجائبي هو حالة التردّد التي يشعر بها القارئ تجاه الأحداث والأفعال، فحالما يحسم أمره ويهتدي إلى الحلّ الذي يرى أن الأمر لا يعدو أن يكون وهم الحواس ونتيجة الخيال وأن قوانين العالم لم تتغير، يدخل حينئذ مجال الغريب الذي يخضع دائما إلى تفسير عقلي ومنطقي“.
- إذن هذا التفريق الذي ذُكرته هنا بين الغرائبي والعجائبي دقيق جداً وهو منطقي على أيّ حال، ولكن يلاحظ لدى المتلقي العربي استخدام المصطلحين «الغرائبي» و«العجائبي» في أغلب الروايات والقصص التي تنحو هذا المنحى بشكل عام.
وقد قرأت في نفس الموسوعة التي نقلت منها أيها الروائياتي أن العجائبي أخذ ”زخماً جديداً مع الأمريكي «إدغار ألان بو»، الذي ترجم له «شارل بودلير» قصصًاً غير عادية، خلال عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وكانت هذه القصص وهي تستلهم الرواية القوطية الإنكليزية منغمسةً في مناخ داكن ومظلم ومتابعة لإدغار آلان بو تغذت قصص النصف الثاني من القرن التاسع عشر من التقدم الحاصل في الأمراض النفسية، ومن الأبحاث ما وراء النفسية والفراديس الاصطناعية، وفي الحقيقة تجدد هذا الجنس، في سبعينيات القرن التاسع عشر، عن طريق ميادين جديدة للبحث العلمي مثل الأمراض النفسية، والاهتمام بالأمراض العقلية والتنويم والمغناطيسية، والاكتشافات المتعلقة بالكهرباء وانتشار الضوء، وكذلك الملاحظات بخصوص ملامح للحياة في الكواكب البعيدة“، وما أشبه كروايات وقصص الخيال العلمي، وهي ليست غريبة عنا، فنحن منذ أيام طفولتنا نشاهد قصصاً تُصاغ على شكل مغامرات ويتم صناعتها كأفلام كرتون منذ أيام التلفزيون الأبيض والأسود، وكذلك مجلات القصص المصورة كسوبرمان، وباتمان، وسبايدرمان، وطزان، والرجل الحديدي، وغيرها من المجلات المصورة التي كنا نتابعها بشغف ونحرص على الحصول عليها من مكتباتنا المحلية كمكتبة الحاج باقر النصر، ومكتبة الحاج حبيب الخرداوي، ولي تجربة شخصية في ذلك، حيث كنت من المهووسين بهذه المجلات المدهشة والمشوّقة بقصصها وحكاياتها الخيالية، التي كانت جديدة على عاداتنا وتقاليدنا في الشأن الحكائي والقصصي الذي عهدناه من أجدادنا وجداتنا - رحمهم الله -.
وبعد هذا المدخل اللغوي والموسوعي الذي أثريناه - معًا - قراءة من خلال المعجم اللغوي ومن خلال موسوعة ويكيبيديا يحقّ لي هنا أن أدخل في ما تتضمنه فكرة قراءة بعنوان «الغرائبية والعجائبية في مجتمعنا»، وهي لا تشير إلى دراسة اجتماعية - شبه - متكاملة، وإن كان الموضوع يستحق دراسة كهذه موسّعة؛ وإنما هو نوع من الإشارات إلى وجود ما يمكن أن نسميه بالغريب والعجيب في جوانب كثيرة من الحراك الاجتماعي في نطاق الرقعة الجغرافية التي يعيش فيها مجتمعنا - أي الساحل الشرقي من مملكتنا العزيزة -، وهذا نوع من القراءة الواقعية للمجتمع بما يتفق وتحقق صفة الغرائبية والعجائبية فيه، وسوف تسلط هذه القراءة الضوء على بعض الأمثلة مما سمعته من البعض، ومما شاهدته بأم عني، ومما هو واقعي من خلال مسيرة حياتي الشخصية في العقود الماضية، وقد رأيت انطباق ما أشرت إليه من الغرابة والعجب على هذه المواقف والحكايات والمشاهدات، وهي بحدّ ذاتها تصلح لأي روائي أو قاص لكي يستثمرها في نصٍّ أدبيٍّ شعري أو سردي متكامل الشروط والمقومات الفنية، وإني أوردها هنا في هذا المقال تذكيرًا بها لكلّ المهتمين من جهةٍ، وتوثيقًا لهذه الغرائبيات والعجائبيات المستفادة من تاريخنا الاجتماعي من جهةٍ أخرى.
يتبع،،