آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

منَ المُقحوِصِينَ القُدَامَى

عقيل المسكين *

- كنتُ أنظر إليه بتعجب.. منذ أيّام الابتدائية والمتوسطة والأول الثانوي، إنه في حالةِ هيمانٍ طبيعية، صمتهُ إزعاجٌ، وإزعاجهُ صمت، لم أرَ مثل هذه الحالةِ من قبل، لم أعهدها في أيّ فرد من أفراد عائلتنا كلّها، لم أشاهد أمي تفعل ذلك، ولا حتى أبي الذي أقلّده في كلّ شيء تقريباً، ولكنني شاهدتها في هذا الشخص القريب، لقد شاهدتها وأنا ممتعضٌ إيّما امتعاض.

كنتُ أنظر إليه بتعجب.. لقد كان يفعلها بطريقةٍ لا أستطيع أن أسميها إلا بِشبهِ الحالة البهلوانية، لقد تخيلتهُ في سيركٍ ما يمارس إحدى الألعاب الخطرة بكلِّ مهارة وخِفة، وهو لا يأبه بأيْ خطورةٍ نتوقعها من جرّاء هذه اللعبة المتعِبة والصعبة في نظري، والمريحة والسهلة في نظره.

كنتُ أنظر إليه بتعجب.. كما تخيلته كالفارس الذي يمتطي فرسه المطهّم، ولا يزال حاملاً سيفه في خِضم المعركة بين حشدٍ من الجنود الهائجين عليه، والفرسان المحدِقين به، والحامِلين رماحهم، يتدرّعون بزرودِهم، وهو يقصدهم جميعاً، يحمل عليهم حملة رجلٍ واحد، يحصد رُؤوسهم من منابتها، ويطعن خواصرهم ويقطّع في أوصالهم، وهو يتقدّم فيهم بطّاشاً غير هيّاب، ويميل عليهم قتّالاً غير مرتاب، وكأنه ذلك الوحش الأسطوري ذو الأجنحة الكبيرة والذي ينقضّ على فريسته فيلتقطها بمخالب قدميه الحادّة ويعمل فيها بمنقاريه الجارحين ويقطّعها تقطيعاً.

كنتُ أنظر إليه بتعجب.. وهو يتقدّم إليها بأسلحته المدمّرة وكأنه جاء إليها مُنتقماً لثأرٍ قديم، أو بينه وبين خصومهِ تِرَة مكتوبة على جبينه ولا بدّ له من ارتكابِ ما جاء إليه كي يشفي قلبه ويُرضي بني قومه، وقد سنّ كل أسلحته حتى غدت حادّة لأجلِ ذلك، وإن لم يقم بهذا العمل المطلوب منه فإن وراءه من يعاقبه ويحمّلهُ من قبيلتهِ العارَ والشَّنَار، وسيصبح من المغضوب عليهم لدى كلّ صغير كبير، بل سيطرد إلى خارج القبيلة إلى أن يعود مرة أخرى بشرفهِ وشرف قبيلته منتصراً غير منهزم.

من هو يا تُرى هذا الرجل الذي كنت أنظر إليه بتعجب؟.. من هو هذا الذي شبهته بالفارس الذي يهجم على فريسته؟.

إنه ذلك الرجل القريب الذي ألِفتُهُ منذ صباي، ولا زلت أذكر بعض المشاهد القديمة، وكلما تذكرتُ لقطات تلك المشاهد كنتُ أنظرُ إليه بتعجب؛ وقد وُضِعت السُّفرة، وتم صَفّ الصحون عليها، كصحن الرز الأبيض، وصحن السمك الصافي، وصحن السلطة الخضراء، وصحن مليء بالتمر، وصحن البصل والطماطم المقطّع، و«جيك» الماء البارد، وكذلك ”غرشة صاص أبو ديك“، التي تعطي للطعام نكهة خاصة مُشهية لكلّ من يجلس على هذه المائدة، وإذا بي أرى هذا الشخص الذي أدهشني بطريقة أكله حيث يأخذ السمكة الواحدة بين أصابعه العشرة ويتعامل معها كأنّه أحد المحترفين في سلخ الذبائح، فيسلخ جلدها أولاً، ثم يتناول جوانبها من اللحم الطري اللذيذ، حتى تبين عظامها، ثم «يقحوص» عظامها جانبًا جانبًا، وعظمًا عظمًا، حتى الذيل لا يترك فيه شيئًا على الإطلاق إلى أن يقّطعه ويعيد لعقه ومصمصته بين فكّيهِ ولسانه حتى يجعله نظيفًا لا شيء فيه من اللحم إلى أن يُلقيه بجانبه على السفر، ثم يعود لجوانب هذه السمكة المقطّعة بين أصابعه ويأتي عليها لِآخرها، وبعد ذلك يتوجه للرأس الذي قد وضعه جانبًا ينتظر دوره في تلك القحوصة العجيبة ويمسكه بيمينه ويرفعه إلى فمه ويبدأ يعمل الفكّين واللسان بطريقة لطيفة في تناول كل جزء فيه، ثم «يُفصفصه» جانبًا جانبًا إلى أن يجعله نظيفًا من كل لحم وجلد حتى يضعه على كومة العظام النظيفة جدًّا، وقد كانت هذه الكومة من العظام صغيرة جداً بعظمة أو عظمتين، ولكنها كانت تكبر شيئاً فشيئاً وإذا هي كالجبل الصغير أمامه على السفرة، وهكذا حتى ينتهي من كلّ جزء في السمكة التي جاء دورها وحصلت على نصيبها من «القحوصة»، و«المصمصة»، «اللعق»، و«السلخ»، ثم أراه يتناول السمكة الثانية ليعيد هذه العملية من جديد، وهكذا حتى أجهز على كلّ السمك الموضوع أمامه، أما أنا ووالدي فقد تناولنا القليل جدًّا من السمك والرز المواجه لمكان جلوسنا مع هذا الرجل القريب، ولكننا لم نرتكب ذلك العمل العجيب الذي أدخل على قلبي الذهول، وجعلني في حالةٍ عظمى من الدهشة.

وفي موقف آخر لا زلت أتذكره - منذ أيام المرحلة الابتدائية -، ففي أحد أيامها أخذني والدي من ضمن فريق العمل لتركيب أبوابٍ في أحد الأحياء الجديدة في مدينة الخبر، مع اثنين من الفنيين الباكستانيين، وبعض الأعمام الذين كانوا يعملون معه في المنجرة في أوقات الفراغ - ما بعد الظهر حتى بداية المغرب -، وفي الإجازة الأسبوعية، وفي بعض الإجازات مثل إجازة نصف السنة وإجازة آخر السنة، وبينما كان بقية الفريق يعملون في تركيب الأبواب وقد جاء وقت الغذاء، ذهبت مع والدي إلى داخل مدينة الخبر وبالتحديد إلى أحد شوارعها العامة حيث تتواجد بعض المطاعم لشراء وجبة الغذاء لجميع أعضاء فريق العمل، ودخلنا أحد المطاعم وصار والدي عند موظف استقبال الطلبات للطلب والدفع، أما أنا فقد كنت على جانبٍ من جوانب المطعم أتأمل في عاملٍ أظنه كان فلبيني الجنسية، وكان يتناول وجبة الغذاء وهي عبارة عن صحنٍ من الرز، ودجاجة مشوية على الفحم، وأمامه - على ما أظن - «غرشة» بيبسي، والشيء الذي تعجبت منه هو طريقته في أكل الدجاجة، فقد كان يفعل كما يفعل قريبنا الآنف الذكر، حيث كان يعمل في «قحوصة» عظام الدجاجة بطريقة مُتقنة، وكأنّه قد أخذ دورة تدريبية في هذا الأسلوب من طرق الأكل؛ والذي أظنه أنه لم يأخذ هذه الدورة فقد تعلمها بكثرة قيامه بهذا العمل العجيب، وكما قالوا: ”من شبّ على شيءٍ شاب عليه“، وما أن حمل والدي أكياس الطلب الذي طلبه لغذاء فريق العمل من الباكستانِيين وبعض الأعمام، حتى رأيت هذا العامل الفلبيني الذي كان يتناول غذاءه قد أتى على تلك الدجاجة ولم يبقِ لها من باقية، حتى صحن الرز جعله نظيفاً كأنه للتوّ قد وُضع له على الطاولة.

كنتُ أنظرُ إليه بتعجّب.. وهو يُخبئُ قطعة كبيرة من اللحم بعظامها تحت جانب السفرة التي يجيب حِذاءها مع المجموعة التي يرافقها في مجلس عشاء العرس، وكنت أحدهم أأكل برفق لأنني صبي يافع جئت من بيتنا بنفس الحيّ؛ حيث كان هذا المجلس قريبًا من بيتنا العود؛ وقد أخبرتني والدتي «حفظها الله» أن أحضر هذا العشاء الذي عُقد بمناسبة زواج أحد أبناء عائلة من عوائل حيّنا العريق «الديرة»؛ وأمي دائمًا تشجعني على مواصلة الناس وحضور المناسبات الاجتماعية كمناسبات الخطوبة، والزواج، وكذلك مجالس الفاتحة التي تعقد على أرواح المتوفّين، وغيرها من المناسبات؛ وهذا الشخص الذي أخذ قطعة كبيرة من اللحم بعظامها ووضعها تحت السفرة الدائرية المصنوعة من الخوص كان يقطع من ذلك اللحم المخبأ ثم يضعه على الرز بجانبه ويكوّر الرُّز في يده اليمنى ثم يلقمها فمه ويأكل، وهكذا، والذي لفت نظري هو قيامه بنفس الطريقة التي ذكرتها في المثالين أعلاه حيث يكان يقحوص عظام اللحم ويمصمصها مصمصة عجيبة، ولم يجرؤ أي أحد من الجلوس على تلك السفرة أن يعترض عليه أو يحدّثه بأن ذلك التصرف غير مُحبّذ أو هو من عيوب الجلوس على موائد الطعام، أما شعوري أنا من هذا التصرّف الغريب فكان التماسي العذر لهذا الرجل العجوز؛ فهو إما أن يكون يتصرّف هكذا بتلقائية دون أن يقصد الإهانة لأيٍّ من المرافقين معه على هذه السفرة، أو لأن به بعض الشراهة والميل الزائد لتناول الطعام وهو يقوم بهذا التصرف بشكل عفوي أيضًا، أو لأنه بالفعل يشبه بعض أولئك الذين ذكرهم الجاحظ في كتابه «البخلاء»، أو يشبه بعض تصرفات الطفيلي الشهير أشعب الطّماع، والغريب أن هذا الموقف لا يزال محفورًا في ذاكرتي كأنه مشهد سينمائي أتذكره كلّما جاءت مناسبة مشابهة أو لها وجه من المطابقة في هذا المِثال، وها أنا أذكره هنا لأن له علاقة بالمضمون العام الذي أتحدث عنه.

كلنا نعلم بأن لتناول وجبات الطعام الكثير من العادات والتقاليد المختلفة، ولها تفاصيلها الدقيقة أيضًا، ويمكننا القيام بجولة مطوّلة في الكثير من المواقع، والاطلاع على الكثير من المصادر والمراجع، وتصفح المجلات والصحف والنشرات، وقراءة سريعة لبعض الأبحاث والتقارير حول ذلك، وبالذات في عادة قديمة قدم الطعام ذاته، أي منذ بداية خلق الإنسان، أي منذ آدمنا الأول حتى جميع الأوادم في عصر ترامب وقد فاز برئاسة أمريكا للمرة الثانية وهو ينتظر دخول البيت الأبيض من جديد، والبشر - على أي حال - لا يزالون يأكلون، سواء على تلك الموائد الوفيرة في بيوتهم أو قصورهم أو في أرفهِ الفنادق وأترفها وأوسع المنتجعات وأجملها وأفخم الشاليهات وأروعها، أو أولئك الذين يأكلون في خيام اللاجئين أو خرائب الهاربين من الموت ومن رصاص وقذائف الذين أخذوا على أنفسهم ممارسة سلب الحياة من هؤلاء الذين يبحثون عن بصيص من الحرية الحقيقية التي سلبها منها أعداء الحق وأعداء الإنسانية.

الأكل هو الأكل، وله آدابه، وله أساليبه السليمة التي يقرّ بها العقل ولا تتقزز منه النفس، ولكل شعب عاداته وتقاليده في ذلك، كما إن لكل قومٍ ذوقه الذي تعوّد عليه، فهذه العادة لدى قومٍ من الأقوام تعتبر عادة حسنة ولا ضير فيها، ولكنها لدى أقوام آخرين تعتبر من العادات السيئة والتي يمجّ منها الذوق العام، ولا ننسى تدخّل الأمزجة التي تختلف من شخص لآخر في طريقته لتناول أي وجبة من وجبات الطعام، مع أهمية الالتزام بقواعد الأدب المتعارف عليها في الجلوس عند المواد.