آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

التعلّم باللعِب

عقيل المسكين *

- ماذا لديك أيّها ”المسك“ أراك ساهمًا بتفكيرك في شيء ما؟

- نعم أيها ”الرّوائياتي“.. أفكر في بعض التصرفات الغريبة التي كنا نعملها في صغرنا أيام السكن في ”البيت العود“ بحي الديرة، وقد أحيا فيّ هذه الذكريات أخي ناصر ذات مساء بشهر ذي الحجة 1445 هـ، حيث ذكر لي أنه في صغره - أبّان المرحلة الابتدائية - كان يلعب كرة القدم مع عباس ابن العمّة مكيّة مع أخيه داوود مع العم جعفر في صالة الدور الأول من البيت العود، عندما تكون الجدّة «أم ناجي» غير موجودة في ذلك الوقت، ربما كانت تخرج للاستماع في بعض المجالس الحسينية أوقات العصر ثم تعود، وهم يستغلون هذا الوقت للعب الكرة رغم أن الصالة ليست كبيرة ولكنهم يرتبون المكان بحيث يضعون شبكاً صغيرا في الطرف الشرقي من الصالة، وشبكاً ثانياً في الطرف الغربي من الصالة؛ وعادَةً الشَّبَك الافتراضي عبارة عن نِعالين أو حِذائين فردة هنا وفردة هنا بينهما مسافة متر حتى لا يتم وضع لاعب بمركز حارس، تماماً كما تفعل فِرق كرة القدم أثناء بعض التدريبات، حيث يعتمدون شِبكاً صغيرة لا تزيد عن متر وربع أو أقل أو أكثر قليلاً؛ بحيث لا يُخصص حارس في كل فريق، وإنما يعتمدون على المهارات الفنية للاعبين من الخصمين، والتسجيل عبر شِباك صغيرة زيادة في اللعب الدقيق، في المهارات وفي التصويب، ويبدؤون باللعب بكرة هي في الغالب من الكُوَر الأصغر من الكرة ذات المقاس الطبيعي للعبة كرة القدم، والفريق الذي يُدخل الكرة في شبكة الفريق الخصم يكون قد سجّل هدفاً، وبمجرد إحساسهم بأن جدّتهم قد جاءت واقتربت من الدَّرج عندما تصعد من الدور السفلي إلى الدور العُلوي يتوقفون عن اللعب، وهذا الموقف يذكرني بالكثير من حالات اللعب التي كنت أمارسها أنا أيضًا مع أطفال العائلة ممن هم أصغر سنًّا منّي، وكذلك بعض أطفال الجيران، حيث كنا نلعب بالصالة في الدور السفلي، أو بالطريق الضيق من الباب الشرقي، مقابل «بيت مِنْعِيند» و«بيت شويخات»، و«بيت ربعان»، أو الطرقات الضيقة جهة الباب الغربي للبيت العود مقابل «بيت حجي حسن الشيخ»، أو بين «بيت العريّض» و«بيت الحكيم»، وهذا اللعب بكل بساطته كان لعبًا حماسيًّا لأننا كنا نشعر بالحرية الحقيقية في عالم الطفولة، كما كنا نشعر بالكثير من المتعة والدهشة عندما ينتصر فريق على فريق آخر، حتى إننا في بعض المباريات نخصص كأساً ليفوز به الفريق المنتصر، وهو عبارة عن مِبخر مستعمل من أحد الأعضاء يُحضره من بيتهم إما باستئذان من والديه، أو يأخذه خِلسة دون علمهم، ولا أعلم هل اشترى أحد اللاعبين من فريقنا مِبخراً صغيراً من السوق لأمثال هذه المباريات، حتى الفريق المنهزم لم يكن يشعر بالفشل أو بمرارة الهزيمة وإنما كان غالبية الفريق المنهزم يشعر بأنه قام بدَورِه على أي حال وكما نقول ”الكورة مدورة“ وهذا يعني يوم للانتصار ويوم للهزيمة.

- ما شاء الله على هذه الذكريات الجميلة، ولكنها ذكريات اعتيادية، فما الغرض من إيرادها هنا أيها «المسك»؟

- صحيح لا غرابة فيها ولا دهشة، ولكنني سأكمل لك ما الهدف من إثارة هذا الموضوع، فاللعب الحرّ للأطفال وللصبية مهم جدًّا لتكوينهم الثقافي والفكري والمعرفي، ولا يخفى عنك مصطلح التعليم باللعب؟!.. والتعليم باللعب ينقسم إلى قسمين وهما: اللعب الحرّ الخاص بالأطفال والصبية أنفسهم بحيث يرتبون طُرق لعبهم بأنفسهم ويتقسمون بأنفسهم بحيث يتفقون بأنفسهم دون إشراف من أحد أكبر منهم، ثم اللعب الحرّ بإشراف أحد آخر أكبر منهم يوجههم ويرشدهم، وأنا أظن أن القسم الأول له فوائد كثيرة حيث سيتعلم الأطفال والصبية حرية التنظيم والترتيب أثناء اللعب ويكتسبون هذه الصفات ويتدربون عليها منذ صغرهم، وكذلك القسم الثاني له فوائده أيضاً لأن المعلم والمرشد سيكون بمثابة القائد الذي يوجههم ويختصر لهم الطرق السليمة للعب وتنظيمه فيما بينهم.

- صحيح ما ذكرت أيها ”المسك“ حيث يعدُّ التعلّم باللعب من الطرائق التربوية والتعليمية الحديثة، وله شروطه، وخطواته، وفوائده، وما ذكرته جزء مهم من هذه الثقافة الجديدة التي تتعلق بالتعليم باللعب، وهناك مناهج معتمدة يتم الاستعانة بها في بعض رياض الأطفال وكذلك السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية للبنين والبنات في كثير من دول العالم.

والتعلّم باللعب موجود منذ قديم الزمان، وهو يظهر لدى الأطفال بشكل فطري تارة، وبالتعلّم من الأبوين والكبار بشكل عام، أو بالتدرّب على هذه الألعاب من قبل مدربين خاصين في القبيلة، أو الحارة، أو الحي، وفي العصر الحديث التعليم باللعب أصبح جزءًا من التربية والتعليم في الكثير من المؤسسات التعليمة كرياض الأطفال، والمعاهد، والمدارس النظامية، والتعلّم باللعب كمفهوم تربوي وثقافي حاضر بقوة في القصص القصيرة، والحكايات، والروايات، والمسرحيات، سواء في الأدب العربي أو العالمي، وأورد هنا بعض الأمثلة البارزة التي يمكن أن تندرج تحت هذا الإطار، ففي الأدب العربي نقرأ في حكايات ”كليلة ودمنة“ لعبد الله بن المقفع ففيها يتم استخدام قصص الحيوانات لإيصال دروس أخلاقية وسياسية للأطفال والكبار معًا، وهذه القصص تقدم مفاهيم تربوية مغلّفة باللعب والخيال، مثل أهمية الصداقة، الحذر، والذكاء، كما نقرأ في قصص الأطفال لتوفيق الحكيم، حيث كتب الحكيم مجموعة من القصص الموجهة للأطفال، مثل عصفور من الشرق، حيث يحفّز الخيال والإبداع من خلال شخصيات مفعمة بالحركة والمرح، وكذلك نقرأ في ”حكايات شعبية من العالم العربي“ ففي هذه الحكايات المنتشرة في الثقافات العربية تعلّم الأطفال قيمة العمل الجماعي، الذكاء، وحل المشكلات من خلال المغامرات واللعب مع الحيوانات أو الشخصيات الأسطورية.

أما في الأدب العالمي فنقرأ ”أليس في بلاد العجائب“ للكاتب لويس كارول «بريطانيا»، وهذه القصة الخيالية تعتمد على المغامرات والألعاب الفكرية التي تخوضها أليس في عالم مليء بالغرائب، مما يعزّز التفكير الإبداعي لدى الأطفال، كما نقرأ الرواية العالمية ”جزيرة الكنز“ لروبرت لويس ستيفنسون «بريطانيا»، وهذه الرواية مليئة بالمغامرات والألعاب التي تعلّم الأطفال الشجاعة، التفكير الاستراتيجي، وأهمية التعاون.، ونقرأ أيضًا ”الطفل الأسود“ «أفريقيا»، وفي هذه الحكايات الأفريقية التي تنتشر في الثقافات الشفهية تعتمد على اللعب بالرموز والحيوانات لتعليم الأطفال قيم الحياة مثل الشجاعة، الذكاء، والعمل الجماعي، أما في المسرحيات فنقرأ مسرح العرائس العربي مثل مسرحيات ”أراجوز“، التي تستخدم الشخصيات المتحركة لتعليم الأطفال دروسًا حول الأخلاق والسلوكيات الجيدة بأسلوب ممتع ولعِب جميل، أما مسرحيات شكسبير للأطفال «بريطانيا» ففي العاصفة ”و“ حلم ليلة صيف ”تحوي ألعابًا فكرية وسحرية تساعد الأطفال على فهم القيم الإنسانية، ومن الحكايات العالمية نقرأ“ حكايات جحا" - جحا العربي وجحا التركي - حيث

تُقدَّم قصص جحا بأسلوب يمزج اللعب بالذكاء، حيث يعتمد على الفكاهة والحيل لنقل الدروس الحياتية، أما في الأدب الألماني فنقرأ ”الأخوة غريم“، وهي حكايات ممتعة مثل ”هانسل وغريتل“ و”سندريلا“ وهي تقدم للأطفال ألعابًا عقلية ومغامرات تعلمهم الاعتماد على النفس والتمييز بين الخير والشر، وخلاصة القول: التعلّم باللعب حاضر بوضوح في الأعمال الأدبية والمسرحية التي تستهدف الأطفال وحتى الكبار بمختلف أعمارهم، وهذه القصص والحكايات تعلّم القيم والمبادئ بأسلوب غير مباشر وممتع، ما يجعل التعليم أكثر فاعلية وجاذبية.

ومن اللطيف أن تتذكر أيها ”المسك“ قصص التعلّم باللعب سواء في لعب كرة القدم، أو السباحة في العيون الارتوازية أو الألعاب الشعبية ك ”لعبة العنبر“ و”نص العنبر“ و”احترقت“ و”الهول“، و”القفز على الحبل“، و”الحجلة“ و”الصبة أم ثلاث“ و”الصبة أم تسع“ و”الزاتة“ و”العكوس“ وغيرها من الألعاب، إذا رافقها بعض التعلّم كتعلّم احترام الخصم، وتعلم صفة الاتفاق بين الطرفين، وتعلّم التسامح أثناء اللعب وعدم الخشونة، وتعلّم التفاهم الودي، وما إلى ذلك من الصفات الجميلة.