كنّا نَتَصارَع عِندَ مَقصفِ المدرَسَة
- من العادات الغريبة التي تعودنا عليها في المدرسة الابتدائية ذلك الصراع البريء أحياناً والشديد في أحيانٍ أخرى؛ عند المقصف المدرسي، ولا زلت أتذكر الكثير من المواقف سأتطرق إلى بعضها مما أثار الدهشة عندي ولا زالت ذكراها عالقة في ذهني.
ذات صباحٍ رنَّ جرس الفُسحة فخرجنا جميعاً من الفصول وتوجهنا عند المقصف المدرسي، وهناك شاهدنا معركة حقيقية بين الطلاّب كلٌّ يريد الحصول على وجبته التي يريد أن يتناولها في هذه الفسحة، حيث يوجد «سويت رول»، وسندويتش «البيض بالطماطم» بالملح وشطة أبوديك، وسندويتش «الجبن بالمربى»، وسندويتش «خبز بالزعتر»، و«عصير البرتقال»، أو «حليب أبو عود»، إضافة إلى بعض الحلويات وربيان نسمة، ولم تكن قوارير الماء الصغيرة قد انتشرت في الأسواق وقتئذٍ ما عدا ماء الصحة وكانت تباع في البقالات ولم نشاهد منها الأحجام الصغيرة كما هو الحال في وقتنا الحاضر، وكان الذين يشرفون على المقصف هم الفرَّاشون ومنهم الحاج علي الحي، حيث يُحضر هذه العصيرات والحليب من البقالات لا سيما بقالة المطرود القريبة من المخبز العصري، وكذلك من المخبز العصري حيث يشتري «الصمول» و«السويت رول»، كما يتفق مع بعضهم لعمل أنواع السندويتش سواء عنده في البيت أو داخل مقصف المدرسة.
كنت أريد الوصول إلى فتحة المقصف لأشتري الوجبة التي أريدها، ومن شدة الزحام لم أستطع الوصول مطلقاً، وفي الأثناء شاهدني الحاج علي الحي، وهو أحد المسؤولين عن المقصف مع فراشين آخرين، وبما أنه يعرفني لأنه أحد أصدقاء والدي فقد خرج من المقصف وسألني ماذا أريد بالضبط فأخبرته وأعطيته النقود، وأعطاني ما أريده في كيس وفتح باب المقصف من الجانب وأعطاني الكيس وذهبت وأنا أشاهد تلك المعركة التي تعودنا على مشاهدتها من الزحام في الدور الذي حاول الفرّاشون تنظيمه ولكن دون جدوى، فيفلحون في تنظيمه ببعض الأيام ويفشلون في ذلك في أيام أُخرى.
ومن ذكرياتي أيضًا عند هذا المقصف العجيب الذي شبهته ذات يوم وأنا أتذكره أن الحياة كلها تشبه هذا المقصف، فكل إنسان في هذه الحياة يريد أن يصل إلى غاية معينة يعيش لأجلها؛ لذلك يصطف مع بقية البشر لشراء هذه الغاية، وبالتالي حيازتها لإشباع هذه الرغبة التي تستحوذ عليه طوال حياته، فهو إما أن يصل إليها بسرعة أو يصل إليها متأخراً، وهو أيضاً إما أن يؤخِّره الآخرون عن الوصول بالقوة لأنهم زاحموه واضطروه للتراجع ومن ثم التأخر عن الحصول على ما يريد؛ أو يحالفه الحظ بقوته وإصراره وعزيمته حيث يقوم بتأخير الآخرين ويتقدم هو متخطّياً الدور فيحصل على ما يريد وينسحب بسرعة من مضمار هذه المعركة العجيبة.
- ما شاء الله أيها «المسك» بِالفعل هي ذكريات مُدهشة، فالمقصف المدرسي له من ذكرياتٍ كثيرة عند الطُلاّب، وهم لا يزالون يتذكرون الصراع الصباحي في الفسحة عند المقصف المدرسي، بحيث أي محاولة للتنظيم لا تجدي، حتى ييأس المعلمون في المدرسة من أي محاولة للتنظيم والانضباط أثناء عملية البيع، ولا شك لقد تطرق الكُتاب والأدباء في مقالاتهم وفي قصصهم ورواياتهم عن المقاصف المدرسية وحالات الفوضى والزحام عند فتحة المقصف.. أما في العقود الأخيرة فقد تم تطبيق النظام الصارم للانضباط من حيث الترتيب وطرق البيع والإلزام بالطابور عند فتحة المقصف، وهناك العديد من الكتابات التي تناولت ذكريات ووقائع المقصف المدرسي والفوضى التي كانت تصاحبه، وكذلك التحوّلات التي شهدتها هذه الأماكن في العقود الأخيرة، فها هو غازي القصيبي في كتاباته، أشار إلى ذكريات المدرسة والصراعات التي كانت تحدث عند المقصف؛ ووصف في أحد كتبه كيف كان الطلاب يتدافعون لشراء الطعام في وقت الفسحة وكيف كانت تلك اللحظات مليئة بالإثارة والفوضى، وها هو إبراهيم الكوني في بعض رواياته يتناول موضوع المقاصف المدرسية ويصف بدقة الأجواء المليئة بالضجيج والزحام عند فتحة المقصف، وكيف كانت هذه الأماكن تشكل جزءًا لا يُنسى من حياة الطلاب اليومية، حتى أصبح هذا الموقف الصباحي لديه مدعاة للتأمّل، وكذلك الكاتب أنيس منصور في مقالاته وكتبه؛ يتناول تفاصيل الحياة المدرسية في مصر بما في ذلك مشاهد المقاصف المدرسية، حيث يصف تلك اللحظات التي كان فيها الطلاب يتسابقون لشراء السندويتشات والمشروبات، وكذلك الروائي نجيب محفوظ في بعض رواياته تناول حياة الشباب والأطفال في مصر، وقدّم لمحات عن الحياة المدرسية بما في ذلك المقاصف وحالات الفوضى والزحام، والقاص الروائي يوسف إدريس يعرض في قصصه القصيرة تفاصيل دقيقة عن الحياة اليومية للطلاب، بما في ذلك ذكريات المقاصف المدرسية والطابور والزحام، وأنت أيها «المِسك» أحسنت في تناولك هذه الذكريات بأشياء من التأمّل المدهش، والشاعرية الذاتية في نظرتك للواقع والوجود من خلال هذه الحكايات شبه العادية إلا أنها بتوهجها القديم لا تزال حيّة باستنتاجاتك تجاه واقعك الشخصي والواقع من حولك.
- أنا أعتقد أيها الروائياتي أن لذلك الصراع القديم عند المقصف المدرسي ما هو إلا شكل من أشكال الصراع على مكتسبات الحياة، بل هو صراع من أجل البقاء، وهو فطري بشكل عام في شخصيات كل طفل مِنَّا، إلا أن هذا الصراع - بأي نوع كان - يجب تنظيمه ليكون صراعًا محمودًا ومُنظّمًا، فالذي يأتي أولاً يكون قد سبق الآخر، والآخر المتأخر يأتي بالمرتبة التي جاء فيها، وهكذا، فهناك أول وثان وثالث وهكذا، وكلّ بحسب قدرته وإحرازه الأسبقية للحصول على ما يشاء، كما أعتقد أن هذه الحالة من الفوضى تركت أثرًا سلبيًا لدى أجيال كثيرة في مختلف أقطارنا العربية بشكل أخصّ والإسلامية بشكل أعمّ، وذلك منذ دخول التعليم النظامي فيها بالعصر الحديث، يعني من أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين حتى سنوات طويلة منه، ولو أن النظام والتنسيق كان مفروضًا منذ لك العقود في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي - وربما قبله بقليل - وكذلك في القرن العشرين لأصبحت حالة النظام نسقًا تربويًّا راسخًا في كل الأجيال، وأظن أن الاستعمار الغربي لعالمنا الإسلامي لا يريد ذلك لأن الأجيال المنظمة والتي تشعر بمسؤولية النظام والحالة الآمنة والمرتّبة لممارسة هذا النشاط جنبًا إلى جنب مع النظام القوي والمميز في التعليم ذاته، فإن ذلك يشكل خطرًا على الاستعمار ذاته، من هنا قال ذلك الرجل من الكيان الصهيوني - بما معناه: ”لو رأيت العرب يصطفون بنظام في طوابير للحصول على الخبز أو عند شباك تذاكر المواصلات لكنت خائفًا منهم“.