آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

بينما هنَّ يثرثرنَ كنتُ ألعبُ بالمقصّ

عقيل المسكين *

- ذات عصريةٍ - بإحدى سنوات المرحلة الابتدائية - وأمي ”حفظها الله“ تمارس أعمال الخياطة في صالة الدور السفلي من «البيت العود»، حيث تقوم بهذا العمل زيادة لدخل عائلتنا الصغيرة، لأنها تحب أن تساعد والدي الذي يعمل في المنجرة ويدفع المصروفات كالكهرباء ورواتب العاملين وأعمال الصيانة للمكائن وشراء مواد العمل ومما يتبقى لديه بالكاد يكفي للصرف على أمه وإخوانه وأخواته كما يصرف على عائلتنا، وفي كثير من الأيام يكون متضايقًا جداً لأن ما يتبقى لديه لا يكفي لمصاريف هذه العائلة الكبيرة، ومن عادة أمي أن تعمل على مكينة الخياطة لبعض معارفها من الجيران ومن نساء الحيّ أو بعض نساء الأحياء المجاورة، لأن أمي معروفة لدى الكثيرات منهنَّ لأنها تقرأ كمساعدةٍ مع أختها الخالة فاطمة وذلك في مجالس الملاية شيخة، ومُلاّيات أُخرَيات، وتحصل على بعض المال على سبيل البركة لقيامها بأداء بعض الردّاديات أو قراءة الحديث قبل شروع الملّاية شيخة بقراءة المصيبة في المناسبة التي اجتمعوا لإحيائها سواء وفاة الرسول الأعظم ﷺ، أو فاطمة الزهراء أو وفاة زينب «سلام الله عليها» أو وفاة أحد الأئمة من الإمام علي أمير المؤمنين أو الإمام الحسن السبط عليه حتى الإمام الحادي عشر الحسن العسكري ، لأن مصيبة استشهاد الإمام الحسين مع أنصاره يتم إحياؤها من اليوم الأول في كل محرم حتى اليوم الثالث عشر منه، وفي بعض المجالس كنَّ يقرأنَ عشرة ثانية وربما ثالثة في مجالس أخرى، وكانت أمي تحصل على ما يساعدنا قليلاً لسد ّتكاليف أعباء المعيشة، وقد تناولت من جارتنا بعض المال لخياطةٍ سابقة قامت بها أمي لهذه الجارة، كما كانت تتجاذب معها أطراف الأحاديث؛ وبينما هنَّ كذلك كان المقص بيدي ألعب بهِ بهدوء.

في تلك العصرية كنت جالساً بجانب الطاولة الصغيرة التي تحمل مكينة الخياطة وتجلس إزاءَها أمي حيث تقوم بعملها، وكان معنا تلك الجارة تتناقش معها في بعض الأمور النسائية وما حدث لفلانة مع زوجها، أو فلانة انخطبت، وفلانة حامل في شهرها التاسع وهي على وشكل الولادة في أي يوم من الأيام القليلة القادمة، وفلانة مسكينة قد أسقطت جنينها، أو فلانة أنجبَت حيث رزقها الله بولد، وتلك المرأة الأخرى رُزقت ببنت، وما إلى ذلك من هذه الأحاديث التي اعتدن النساء على تداولها في أمثال هذه الجلسات وهنّ يحتسين الشاي بتلك العصرية الجميلة، أما أنا فكنت أُنصتُ لكلِّ كلمةٍ تصدر منهما، والمقص كانَ بيدي ألعب بهِ بهدوء.

ومما تناولنه من الأحاديث تطرق جارتنا إلى بعض النساء ممن يرغبن بخياطة بعض المشامر وبعض الثياب المكسية الطويلة المطرّزة عند والدتي، وأمي تجيب عن كلِّ سؤال تسأله هذه الجارة، ويتحدثن عن بعض الأقمشة في دكان ”البُّقُع“ الكائن في الحي المقابل لحي الديرة وهو قريب من بيت الحاج «أبو علي» مهدي المسكين، ومنزله يقع على الشارع العام المؤدي إلى مدينة حيّ الطابوق جنوب سوق الخضرة الذي يقع مباشرة بعد سوق اللحوم والدجاج الملاصق من الجهة الشرقية لعمارة الحاج حسن غانم المشهور بـ حساني حيث يقع فيها المخبز العصري، وقد تحدثن أيضاً - حسبما أتذكره - عن بعض الأقمشة التي تُباع في ”سوق الخميس“ بالقطيف، أو سوق الدمام، ولا زلن يتناقشن وأمي تعمل على المكينة اليدوية في خياطة ذلك الثوب الذي تعمل على تثبيت أجزائه المفصّلة مُسبقًا بكل إتقان، والمقص كان بيدي ألعب به بهدوء.

ومما تناولنه من الأحاديث أيضًا ما يبيعه البائع المتجوّل السيد عدنان، حيث كان يمسك بزبيلٍ في يمينه، وعلى رأسه زبيلٌ آخر، وكلاهما مليئان بالملابس الداخلية من هافات وفانلات وسراولة ووزرة وأمشاط وغتاري وثياب للأطفال وبعض أدوات الزينة وبعض أنواع النّعل للصغار والكبار، وأغراض أخرى، وكان مشهوراً بلزمة صوتية يرددها وهو يتجول في طرقات الأحياء وأزقتها بسيهات، ومما يقوله:

- هافات فوانيل سراويل خطي.. هافات فوانيل سراويل خطي.

ولعله يقصد بكلمة خطي يعني عدّي هذه الأشياء، فهناك أشياء أخرى أيضاً - والله أعلم -، وتقول أمي لجارتنا أنها اشترت منه بعض الملابس الداخلية لي ولإخوتي وأخواتي الصغار، والجارة تقول لها ما اشترته منه قبل أيام، وهنّ يتبادلن الأحاديث كنت أنا ممسكاً بالمقص وألعب به بهدوء، إلا أنني هذه المرة كنت أقرّب المقص من واير المكينة وأطبقت فكي المقص على هذا الواير، وإذا بالكهرباء تلسعني لسعة لا زلت أتذكرها وأنا أكتب هذه السطور، وقذفتني هذه اللسعة من مكان جلوسي بالقرب من الواير الموصل للفيش على الجدار ورماني للخلف بطريقة لا أعلم كيف حدثت وصرت أصرخ من شدة الألم، فقامت أمِّي مفزوعة وتبعتها جارتنا ومسكوني وأنا أبكي بكاءً حارًّا وكأنّ علقة شديدة قد حصلت عليها من والدي أو من والدتي، وقامت أمي وأحضرت كأسًا فيه ماء وصارت تسقيني، بينما جارتنا أمسكت بيدي وصارت تدلّكها بيديها محاولة تحفيف ألم لسع الكهرباء، وبكائي مستمر وأمي مفزوعة من هذا المنظر الذي شاهدته وظلت بقربي وقد احتضنتني لأشعر بدفء الأمومة وحنان القلب، وهي تسمي بسم الله الرحمن الرحيم، وتصلي على محمد وآل محمد ﷺ، وأنا خائف من هذا الذي يسمونه الكهرباء وقالت لي أمي:

- إياك أن تمسك بالمقص مرة أخرى، وقد رأيت بنفسك نتيجة اللعب بالمقص بالقرب من واير الكهرباء، لقد لسعك ورماك بعيداً وكدت أن أفقدك.

فقلت لها:

- لا لا لن ألعب بالمقصّ؛ ولنْ أقرّبهُ من واير الكهرباء مرة أخرى.

وبعد أن اطمأنت جارتنا عليّ واستسمحت من أمي لأنها شغلتها عنّي بالحديث عن هذا وذاك وهذه وتلك، فقالت لها أمي:

- لا لا لا داعي للاعتذار.. الولد فيه شيء من الشقاوة ويحب أن يلعب بأي شيء.

خرجت المرأة من بيتنا، وأمي شيَّعتها لِقرب الباب، ثم أغلقته، وعندما عادت كنت جالساً جلسة القرفصاء وأنا في شِبه رِعدة قد انتابتني من هول الموقف، وأنا أنظر إلى المقص وهو مرمي بجانب الواير المقطوع، فنظرت لي أمي بتعجب، وأخذت المقص ووضعته في درج المكينة، وقالت لي:

- أياكَ أن تلمسه مرة أخرى.

- إن شاء الله يا أمّي.

هنا وقف ”الرّوائياتي“ متعجّبًا من هذه القصة المقتطعة من أحداث يومٍ من أيامي في المرحلة الابتدائية، وقال:

- بعض الأشياء المادية في حياتنا اليومية، والتي ترد في القصص والروايات والمسرح لها رمزية معينة، وهذه الرمزية يقوم عليها بناء هذه القصص والروايات أو المسرح أو تكون جزءا لا يتجزأ من الحبكة الرئيسة للقصة أو الرواية، أو تكون وسيلة من الوسائل المذكورة بقوة واهتمام أكبر من الأشياء الأخرى التي تشكل الفضاء القصصي أو الروائي أو المسرحي أما يسمى بالبيئة المكانية للقصة أو الرواية، ك «المسدس» أو «السم» أو «الخنجر» في قصص الجرائم، و«كرسي الاعتراف» في رواية لعبدالله الشاوي، و«البساط» في قصة نبي الله سليمان، و«العصا السحرية» في رواية هاري بوتر، و«الكأس» في رواية ”الكأس الأخيرة“ لأجاثا كريستي، و«السيارة» في رواية ”السيارة السوداء“ لحازم عبد اللطيف، وقصص وروايات أخرى، وهذه الرمزية للمقص في القصص والروايات تتفاوت بشكل كبير حسب الثقافة والسياق السردي الذي يظهر فيه في الأدب العربي والغربي، ويمكن أن يكون للمقص معانٍ مختلفة ورمزية متعددة ومنها: المقص في الأساطير والحكايات الشعبية حيث يستخدم المقص كرمز للفصل أو القطع، سواء كان ذلك في سياق العلاقات البشرية أو في السياقات المادية الأخرى، وكما جاء في ”ألف ليلة وليلة“ يكون المقص أداة رمزية للفصل بين العالمين المختلفين، مثلما هو الحال في حكايات الجني والبشر، أما رمزية المقص في الأدب الغربي فنقرأ مقص فيدال في ”فيلم متاهة بان“ «Pan’s Labyrinth»: في هذا الفيلم الإسباني، يستخدم المقص كأداة حاسمة في أحد المشاهد الرئيسة، مما يرمز إلى القدرة على فتح الأبواب أو العبور بين العوالم المختلفة، وكذلك نقرأ مقص إدوارد في ”إدوارد ذو الأيدي المقصات «Edward Scissorhands»“ ففي هذا الفيلم الأمريكي الشهير يستخدم المقصات كرمز للعزلة والاختلاف، وكذلك كأداة للخلق والتدمير في آن واحد، وإدوارد، الذي لديه مقصات بدلاً من الأيدي يستخدمها لخلق أعمال فنية، ولكنه يعاني أيضًا من الصعوبات التي تسببها هذه المقصات في تواصله مع العالم، وكذلك نقرأ المقص في ”قصة حذاء الميت: «The Red Shoes»“ وفي هذه القصة، المقصات تستخدم كرمز للتحرّر من القيود القاسية التي تفرضها الأحذية الحمراء المسحورة، أما رمزية المقص في الأدب الياباني، فنقرأ المقص في مانغا ”الخادم الأسود: «Black Butler»“، وفي هذا العمل يستخدم الشخصيات المقصات كأدوات للقتال، مما يرمز إلى الدقة والقدرة على القطع الدقيق والفعّال، ومن خلال هذه الأمثلة، يمكننا أن نرى أن المقص كرمز يمكن أن يحمل معانٍ متعددة، من القدرة على الفصل والتحرير إلى العزلة والإبداع وحتى العنف والدقة، تختلف هذه الرمزية باختلاف السياقات الثقافية والقصصية التي يظهر فيها المقص.

وسؤالي الموجه إليك في قصتك الطريفة هذه، ما هي رمزية المقص فيها؟.. أو ما هي رمزيته لديك وقد كان بين أصابع يدك تلعب به بهدوء؟

- في هذا الموقف، وتلك المرأة كانت تتكلّم عن كلّ نساء الحيّ، وتوردُ قصصهنّ وأخبارهنّ وأسرار بيوتهنّ، رمزيته لدَي كانت في ذهني من حدّ الوضوح إلى حدّ التشويش لأنني بكل صراحة كنتُ أريد قطع حبل هذا الحديث العجيب وهذه الثرثرة الفارغة، إلا أنني كدت أن أقطع حبل حياتي، ولو إنني استطعت دون قصد أن أقطع هذا الحديث، فتقوم المرأة من مكانها وهي مفزوعة لتشرع في الخروج من بيتنا وأمي تُشيّعها إلى الباب.