المطلوب.. تحرير العقول
جنازة مهيبة، محمولة على الأكتاف، أعداد غفيرة تسير خلفها، نظر بتعجب إلى تلك الجموع، فسأل من بجانبه ما القصة؟ فأجابه إنها جنازة لشخص توفى صباح هذا اليوم، فرد عليه قائلا، لكن ما بال المحمول على الجنازة، يرفع يده ليخرج من التابوت، وهناك من يعيده في كل مرة، فرد عليه، قائلا: إن اثنين من الشهود العدول، شهدا أنه قد توفى، لذا فإنه عندما يقوم من الصندوق محاولا الخروج، فإن المسئول عن الجنازة يعيده إليه...
بالنظر إلى رمزية القصة، إلا أنها تحكي واقعا مؤلما تجاه تصرفات الناس ومواقفهم، رغم الحقائق الدامغة التي تظهر لهم، والأدلة والبراهين الواضحة، إلا انهم يسيرون مع عواطفهم تارة، ومع القطيع تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين، من دون استخدام العقل والمنطق!.
ولعلنا نعجب من تلك المواقف أشد العجب، فنقول ما بال الأقوام الغابرة، كيف كانت تغط في جهالة عميقة، ما بالهم يتخذون هذا الموقف الغريب، إلا أننا قد نقع في مثلها، أو أسوأ منها، أو نرى حولنا من يقف نفس تلك المواقف الغريبة والمخجلة التي لا توافق العقل ولا المنطق.
إذا نظرنا إلى سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ بدء رسالته، فإننا نجد نفس الحادثة تتكرر ولكن بصورة أخرى، فإذا كانت الصور الحالية ملونة فإنها في السابق «اسود وابيض»، وإلا ماذا نقول لموقف العرب في الجاهلية عندما جاءهم الصادق الأمين برسالته؛ ليخرجهم من الظلام إلى النور، من الجهالة إلى العلم والمعرفة، وهو من يمتلك العديد من الخصال والتي أبرزها: الصدق، وإذا بهم يكذبونه، ويقدم لهم المعجزات ليقنعهم بصدقه، فإذا بهم يزدادون قبحا ومعاداة وأذية له، بل ويسعون لقتله غيلة.
وإذا تركنا الماضي البعيد جانبا، فماذا عن الماضي القريب، حروب فتاكة جرت في أوروبا باسم الدين، استمرت عقودا وخلفت الملايين من القتلى، من دون أدني فائدة، هل في ذلك عظة أو عبرة لنا في الوقت الحاضر، أم أننا نعيد التجربة مرة أخرى، وكأننا لا نعي أو لا نعقل، ناسين أو متناسين تلك الحروب الأوروبية الدينية منها بالذات، ناسين أسبابها، وناسين ما آلت إليه، وبعد ذلك، ماذا عن القلاقل والفتن الحاضرة في العديد من البلدان العربية القريبة، والقتل والتشريد ولسنين عديدة، أليس ذلك كافيا ورادعا أمام من يزعم أنه يطبق الشريعة، كيف يستقيم القتل مع الحق، كيف تتوقع الإنصاف ممن يتفنن في القتل والتفجير، كيف يتوافق العنف مع سماحة الإسلام، كيف يمكن لمن يفجر العباد والبلاد أن يدعي نشر الأمن والأمان؟ والأدهى من ذلك انه باسم الإسلام، وإذا كان من يقوم بهذه الفعلة قد تم غسل دماغه وفقد عقله، فماذا عن المؤيدين والمتعاطفين، ألا يملكون ذرة من عقل، أليست هذه جاهلية من نوع آخر.
الخير بيّن والشر بيّن، والدلائل والبراهين دامغة، إلا أن جهالة كجهالة السائرين خلف تلك الجنازة، لا زالت موجودة. حمى الله وطننا من الجهل والجهالة، اللهم آمين.