عاشوراء وثقافة الثبات في الأزمات
لم تكن ليلة العاشر من شهر المحرم سنة 61 هـ كسائر ليالي السنة، بل كانت ليلةً استثنائية بكل المقاييس.
ففي نهار اليوم التاسع، زحف معسكر عمر بن سعد لمناجزة الإمام الحسين وأصحابه، واضعًا إياهم أمام خيارين حاسمين: المعركة أو إعلان البيعة والاستسلام. لكن الحسين
كان قد حسم أمره حين قال كلمته الخالدة: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السِّلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حميّة ونفوسٌ أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
وعندما رأى زحف العدو معلنًا ساعة القتال، التفت إلى أخيه أبي الفضل العباس وقال له: «ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نُصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار».
وهكذا كانت تلك الليلة آخر ما تبقّى لهم من الدنيا، فعمّ معسكر الحسين سكونٌ روحيّ عجيب، وارتفع منه صوت التلاوة والدعاء والتسبيح، يقول المؤرخون: «وبات الحسين وأصحابه تلك الليلة، ولهم دويٌّ كدويِّ النحل، ما بين قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ، يتلون القرآن، ويُسبّحون ويُهلّلون ويدعون، كأنّهم في محراب عبادة، وقد أُفيضت عليهم سكينةٌ من السماء، وامتلأت قلوبهم يقينًا وطمأنينة».
هذا المشهد الإيماني الاستثنائي لا يصدر إلا عن قلوبٍ طاهرةٍ أدركت معنى الرسالة، ورسّخت في أعماقنا درسًا خالدًا: أن صاحب الهدف لا يغفل عن صلاته، ولا يُساوم على علاقته بربّه، ولو أحاطت به جيوش الدنيا. فالثبات على العبادة، لا سيما في لحظات المصير، هو أعظم تجلٍّ للصدق مع الرسالة والالتزام بالقيم.
تمرّ بالإنسان في حياته محنٌ وابتلاءات بأشكالٍ وألوانٍ شتّى، وهذه سنّة الحياة التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ ”الملك، 2“. وعند هذه المحطّات الصعبة، يتمايز الناس في مواقفهم ومشاعرهم وثقتهم بربّهم، فمنهم من تزلّ قدماه، وتضيق نفسه، وتخرج من لسانه كلماتٌ يشوبها سوء الظنّ بالله، فتكون الابتلاءات كاشفةً لحقيقة الإيمان في القلب. وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ ”الأعراف، 96“.
وفي مقابل تلك الصورة القاتمة، تبرز لنا أعظم صورةٍ للثقة بالله تعالى وحسن الظن به، جسّدها الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرّم، فقد كانوا في مواجهةٍ الموت، وتحت ظلال السيوف، وبين أيديهم لحظات هي آخر ما تبقّى لهم من الدنيا، فملأوها بطمأنينة الإيمان، وتوجّهٍ خالصٍ لله سبحانه، ويقينٍ لا يتزعزع بما أعدّه الله لهم من النعيم الأبدي.
في مواجهة المحن، لا بدّ للإنسان أن يتحلّى بثلاث صفاتٍ لا غنى له عنها، فهي زاده في الطريق، وسلاحه في وجه العواصف:
1. العزيمة.
وهي القرار الجادّ الذي لا يتزعزع، والموقف الحاسم الذي لا يُؤجَّل، والذي يدفع صاحبه للمضيّ قُدمًا مهما تعاظمت التحدّيات.
2. الإرادة.
وهي القوّة الدافعة في الداخل، التي تُحرّك العزيمة من حيّز الفكرة إلى ميدان الفعل، وتُعين الإنسان على كسر الحواجز النفسية والمعنوية.
3. حسن التوكّل على الله.
وهو الثقة المطلقة بأن لله تعالى تدبيرًا أعلى، وأن المخرَج بيده، وأنّ الإنسان حين يبذل وسعه ويُسلم أمره لله، فإن الله لا يُخيّب رجاءه، ولا يتركه وحيدًا في الطريق.
هذه الثلاثية تجلّت في الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه في أبهى صورها، فثبتوا بعزيمة، وتحركوا بإرادة، وعلّقوا قلوبهم بالله بتوكّلٍ صادق، فكانوا أهل النصر الحقيقي، وإن مضوا شهداء.
وقد نقل لنا التاريخ نماذج من تلك الصور المشرقة، ومنها ما حصل أثناء مسير قافلة الإمام الحسين إلى كربلاء، حيث يقول المؤرخون إنّ الإمام
غفى قليلاً على ظهر فرسه، ثم انتبه وهو يقول: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ ، وكان إلى جانبه ابنه علي الأكبر
، فقال: ”أبه، أراك استرجعت“.
فأجابه الإمام الحسين : ”نعم، يا بني، عنَّ فارسٌ، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم“.
فقال له علي الأكبر : ”يا أبه، ألسنا على الحق؟“
قال : ”بلى، والذي إليه مرجع العباد“.
فقال علي الأكبر: ”إذًا لا نبالي وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا“.
فقال له الإمام الحسين : ”جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى والدًا عن ولده“.
وختاماً.. ليكن إحياؤنا لموسم عاشوراء ملهماً لنا في الثبات أمام المحن التي نواجهها في حياتنا، وأن نكون أكثر قرباً لله تعالى، وأن نخرج من هذا الموسم وقد تجلّت فينا ملامح العزيمة، والإرادة، وحُسن التوكّل، تماماً كما تجلّت في الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه، فنحيا بروح كربلاء، ونمضي بثباتٍ نحو أهدافنا، لا تزعزعنا الشدائد، ولا تُضعفنا العواصف، ما دمنا على طريق الحق متوكّلين على الله، واثقين بوعده.