آخر تحديث: 6 / 7 / 2025م - 11:28 ص

الصفح خيارك الأنقى

ياسين آل خليل

غالبًا ما يُساء فهم التسامح. يظنه البعض إذعانًا، أو ضعفا. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. فحين تُسامح، أنت لا توقّع شهادة براءة لمن آذاك، بل توقّع شهادة تحرّر لنفسك. الغفران ليس تنازلًا عن الكرامة، بل هو اعتراف ضمني بأنك لست أسيرًا لفعل لم تختره ابتداءً، ولا رهينةً لماضٍ لم يكن بيدك تغييره. أنت تُغلق الباب لا لأن من خلفه تغيّر، بل لأنك قررت ألا تبقى هناك بعد الآن.

ليس كل فعل يستحق الغفران، وهناك جراح تستوطن الروح لسنوات، وتُعطينا ألف سبب كي لا نُسامح. ورغم ذلك، نختار أن نغفر. ليس من أجلهم، بل من أجلنا. من أجل أن نتنفس. من أجل أن لا نغدو نسخةً مشوهة من أنفسنا بفعل الأحقاد والضغائن.

نحن لسنا مطالبين بالنسيان، بل مطالبون بأن نُدرّب عقولنا على أن تضع كل أمر في حجمه. أن لا نضخّم الألم حتى يبتلع الفرح، ولا نُخلّد الإهانة حتى تُقصي الكرامة.

الكراهية، في جوهرها، ليست تعبيرًا عن القوّة، بل عن العجز. الشخص الذي لا يستطيع أن يُدير ألمه بشكل ناضج، يختار أن يُلقيه على الآخرين. أن يتحول الألم إلى عداوة، والغصة إلى هجوم. لكن هذا الطريق لا يقود إلى الراحة، بل إلى الهاوية.

وحده الذي تمرّن على الصفح، من يقدر على أن يعيش بسلام. التسامح ليس وليد لحظة صفاء، بل هو عادة تُكتسب. علينا أن نُفرغ تلك الطاقات المهدورة في البغضاء، ونستثمرها في بناء شيء أكثر قيمة، الاستقرار النفسي. التسامح لا يضمن أن يُقابلك الطرف الآخر بالمثل، وقد لا يأتي الاعتذار يومًا. لكن المسامحة الحقيقية لا تشترط مقابلا. إنها إعلان استقلال. إعلان أنك تملك مفاتيحك الداخلية، ولن تترك ألمك مرهونًا برغبات أحد.

الشفاء لا يعني أن الجُرح اختفى، بل أن وجوده لم يعد يؤلمك. كل ألم تجاوزته، هو نقطة ارتكاز لما تبنيه في الحاضر. كل خيبة سامحتها، هي مساحة جديدة لفرح لم يأتِ بعد. لا تبحث عن العدالة في ماضٍ لا يعود. ابحث عنها في الطريقة التي تبني بها مستقبلك. فبعض الناس قد لا يطلبون منك أن تسامحهم، ليس لأنهم لا يعرفون أنهم أخطأوا، بل لأنهم اعتادوا أن يُخطئوا ولا يُحاسبوا.

اختر أن تُسامح، لا لأنهم يستحقون الصفح، بل لأنك تستحق السلام.