النهضةالحسينية بين الأصالة والابتكار
يشكّل الإعلام الجديد، أو ما يُعرف بـ ”الإنسان الرقمي“، تحولًا كبيرًا في وعي المجتمعات الإنسانية، إذ لم يقتصر أثره على تسريع تداول المعلومة أو تسهيل الاتصال بالعوالم الأخرى، بل تجاوز ذلك إلى إعادة تشكيل أنماط التفكير، وطرق التعبير، وأساليب التفاعل بين الأفراد والمجتمعات. فقد أتاح هذا الإعلام فضاءً مفتوحًا للمعرفة والتواصل، وفتح نوافذ جديدة للتعبير عن الرأي، مما ساعد على التحرر من القيود، والانعتاق من الأنساق التقليدية التي فقدت قدرتها على إلهام الناس.
غير أنّ هذا التحول، لم يخلُ من التحديات، فقد جلب معه انتشارًا واسعًا للمعلومات المضللة، وتضخمًا في المحتوى السطحي أو الموجَّه، الأمر الذي أسهم في نشوء أشكال جديدة من التبعية المعرفية والاجتماعية. ومع ذلك، فقد أوجد هذا الإعلام قوةً فكرية جديدة، دفعت الأفراد إلى إعادة التفكير في هويتهم، وقيمهم، وأدوارهم في الحياة، وأعادت للمجتمعات وعيها بذاتها وبمقومات وجودها.
ومن هذا المنطلق، أصبح الإنسان الرقمي جزءًا فاعلًا في بناء ما يُعرف اليوم بـ ”المجتمع التفاعلي“، وهو مجتمع يتشكّل في الفضاءات الافتراضية، ويستند إلى التواصل والتبادل والمشاركة. وقد أسهم في ولادة قوى فكرية واجتماعية جديدة، صاحبتها موجات من التحديث والتجديد، انعكست في تجاوز الهويات الضيقة والقيود الزمنية والمكانية، وتمكنت من قراءة التحولات، وتحويل المعطيات إلى إنجازات ملموسة على أرض الواقع.
ولأن هذا المجتمع يتسم بوعي متجدد، فقد أطلق طاقات أفراده، ومكّنهم من استعادة زمام المبادرة، وممارسة دورهم الفاعل في الساحة العامة بوسائل مدنية وسلمية، بعيدة عن منطق العنف أو الإكراه أو الهيمنة، مؤثرين في التوجهات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي سياق موازٍ، يشهد ما يُعرف بـ ”إعلام الأفراد والمجتمع“ تصاعدًا متسارعًا في تأثيره على التفكير والسلوك والعلاقات الاجتماعية، متجاوزًا بذلك الإعلام التقليدي في قدرته على تمكين الأفراد من التعبير عن قناعاتهم وأفكارهم وقيمهم بحرية ومسؤولية، في ظل رقابة ذاتية بعيدًا عن وصاية المجتمع أو توجيه المؤسسات، مما منحه قبولًا واسعًا، خاصة لدى جيل نشأ في بيئة فكرية واجتماعية متحركة.
إن هذا الفضاء الرقمي، بما يحمله من أدوات وتقنيات، يشكّل بيئة خصبة لتوليد الرؤى والأفكار، ولصياغة أنماط جديدة من الوعي، تدفع الأفراد والمجتمعات إلى الانتقال من نمط الصمت إلى نمط المشاركة والتفاعل، وتعزز الرقابة المجتمعية الفاعلة التي تجعل من كل ظاهرة موضوعًا للتأمل والنقد والتحليل.
لقد فتح هذا الإعلام نافذة واسعة للتعبير الحر، وأتاح للإنسان المتأمل في عالمه الواقعي أن يتحوّل إلى فاعل مؤثر في العالم الرقمي، حاملًا رسالة الفكر والإصلاح والتغيير.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية الإعلام الرقمي كأداة فعالة في خدمة الرسالات الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها النهضة الحسينية، بما تحمله من قيم العدل، والكرامة، والحرية، ومناهضة الظلم.
فلم تعد المنابر مقتصرة على الحسينيات والمساجد، بل أصبحت وسائل الإعلام الجديدة بأنواعه المتعددة، منابر حديثة يمكن من خلالها نقل صوت الحسين إلى العالم، بلغة العصر وروح الرسالة.
ومن هنا، فإن على الخطيب الحسيني أن يعي هذه التحولات، ويواكب هذه الوسائل، وأن يتقن استخدامها في إيصال مضامين النهضة بأسلوب حيّ، متجدد، يجمع بين الأصالة والابتكار، ويخاطب العقل والوجدان معًا.
فالإعلام الرقمي لم يعد خيارًا، بل ضرورة دعوية وتربوية، تضمن أن يظل صوت الحسين حيًا في الضمير وفاعلًا في صناعة وعيٍ نهضويٍّ يعبر الأزمنة، ويُلهم الأجيال.